ظلّ مطلب رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين في مصر المطلب الأكثر إثارة للجدل منذ تظاهرة عمال غزل المحلة في 17 فبراير/ شباط 2008. عبّرت التظاهرة التي ضمت أكثر من عشرة آلاف عامل عن تطور مهم في الحركة العمالية؛ فقد كانت أول احتجاج عمالي حاشد يرفع مطلباً للعمال على المستوى القومي، وليس مطلباً خاصاً بعمال شركة واحدة.
وعندما قرر مجلس الوزراء في سبتمبر/ أيلول الماضي رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه (نحو 175 دولاراً)، ابتداءً من يناير/ كانون الثاني المقبل كانت النتيجة تزايد الجدل بدلاً من انتهائه. فما قرره مجلس الوزراء جاء على إجمالي ما يتقاضاه العامل من أجر ثابت ومتغيّر، وليس الأجر الثابت فقط. وقد طرح قرار مجلس الوزراء أسئلة عدة، أولها هو كيف توقف مجلس الوزراء عند المطلب الذي رفعه العمال في 2008، وتجاهل موجات الغلاء المتتالية على مدار أكثر من خمس سنوات، التي نزلت بالقيمة الحقيقية لمطلب 1200 جنيه إلى ما يقرب من النصف، كان من المفترض أن يضع في اعتباره معدلات التضخم المتتالية التي ارتفعت بمطلب العمال إلى أكثر من 2000 جنيه. كذلك لم يتضح من القرار سبل التمويل والموارد التي منها ستوفَّر الاعتمادات المالية اللازمة جراء القرار، وما إذا كان سيؤدي إلى إضافة أعباء جديدة على القطاعات الفقيرة، ما يجعل أضرار رفع الحد للأجور أكثر من فوائده. والسؤال الأهم الذي طرح بكثرة عقب القرار هو نطاق تطبيق القرار الذي سيقتصر على العاملين بالحكومة والقطاع العام وقطاع الأعمال، ويقدر عدد المستفيدين من القرار في هذه القطاعات بثلاثة ملايين يستفيدون بدرجات متفاوتة من القرار.
ويعد نطاق تطبيق القرار النقطة الأهم في قضية الحد الأدنى للأجور؛ لأنه بالنظر إلى حجم العمال في القطاعات المختلفة يتكشف حدود الاستفادة من هذا القرار ومدى الأضرار التي قد يسببها.
يتوزع العاملون بأجر في مصر بين قطاعات عدة، القطاع الحكومي ويضم نحو 5.46 ملايين عامل والقطاع العام ويضمّ 660 ألف عامل والقطاع الخاص في المنشآت ويضم 5.2 ملايين عامل والقطاع الخاص خارج المنشآت ويضم 11.4 ملايين عامل، بالإضافة إلى نحو نصف مليون عامل في القطاع الاستثماري وقطاعات أخرى. هذا بحسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن عام 2011، الذي يبلغ فيه إجمالي العاملين بأجر في مصر 23.3 مليون عامل. معنى هذا أن المستفيدين بالفعل من قرار الحد الأدنى للأجور ستكون نسبتهم إلى إجمالي العمال في مصر أقل من 15%. أما باقي العمال في مصر، فلا يتوقف الأمر عند عدم استفادتهم من القرار، بل تكمن الأزمة الحقيقية في أنهم سيضارون بالفعل من هذا القرار. فتطبيق حد أدنى للأجور يستفيد منه ثلاثة ملايين عامل سيؤدي إلى موجات ارتفاع أسعار كالتي تواكب عادة تطبيق العلاوة الاجتماعية في بداية السنة المالية، وتكون النتيجة انخفاضاً في الأجر الحقيقي، ما يعني أن الذين لن يستفيدوا من الحد الأدنى للأجور سيعانون من انخفاض قيمة أجورهم الحقيقية بسبب التضخم.
لكن الأسوأ على الإطلاق هو أن القطاعات العمالية التي لن يطبق عليها قرار مجلس الوزراء هي الفئات الأكثر احتياجاً لتطبيق هذا القرار. إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن متوسط أجور العاملين في القطاع الخاص عام 2011 هي 397 جنيهاً أسبوعياً، بينما متوسط أجور العاملين في الحكومة والقطاع العام يصل إلى 675 جنيهاً أسبوعياً، وهو ما يعني أن عمال القطاع الخاص يعانون بالفعل من انخفاض شديد في الأجور مقارنة بالعاملين في الدولة، على الرغم من أن ساعات العمل في القطاع الخاص هي الأطول، وتصل إلى 58 ساعة عمل أسبوعياً. والأصل في وضع حد أدنى للأجور هو معالجة أوضاع أصحاب الدخول المنخفضة، بينما يأتي القرار بشكله الحالي ليدعم التفاوت في الأجور بين القطاعات العمالية المختلفة. والحقيقة أن عمال القطاع الخاص، سواء داخل المنشآت أو خارجها، والذين يمثلون أكثر من ثلثي العاملين بأجر كما تقدم، ويصل عددهم لأكثر من 16 مليون عامل، فإنهم يعانون من التدني العام في أوضاع العمل، وخاصة العاملين منهم خارج المنشآت والذين يتجاوز عددهم 11.2 مليون عامل. فمثلاً نسبة المشتركين منهم في التأمينات الاجتماعية 10.4%، ونسبة المشتركين في التأمين الصحي 3.3%، ونسبة العاملين بعقد قانوني 1.5%، ونسبة المشتركين منهم في نقابة 6.5%، ونسبة من له عمل دائم 21.8%. هذه الأوضاع لا تعكس فقط تدهور شديد في علاقات العمل ولكن أيضاً، عدم استقرار في العمل، وخاصة أن المؤشرات نفسها تتجاوز نسبة 90% من العاملين بالدولة. وهو ما يعني أن من يُهمَلون في قضية الحد الأدنى للأجور ليسوا فقط أغلبية العمال، ولكن أيضاً هم العمال الأكثر احتياجاً لتحسين أوضاعهم في العمل، سواء من ناحية الأجور أو الاستقرار في العمل أو الاشتراك في التأمينات الاجتماعية أو التأمين الصحي.
لقد جرى تقديم قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه شهرياً ابتداءً من أجر شهر يناير 2014 للعاملين بالحكومة والقطاع العام وقطاع الأعمال على أنه محاولة لتحسين أحوال العمال واستجابة لمطالبهم. وقد بدا من الجدل الدائر قبل القرار والاقتراحات المقدمة أن النتائج ستكون أقل من طموحات العمال. وربما كان صدور القرار بمبلغ 1220 قد جاء مغايراً للكثير من التوقعات وحتى التصريحات، التي أدلى بها كبار المسؤولين، والتي كانت تخفض سقف التوقعات للغاية. وعلى الرغم من ذلك، فإن صدور القرار بهذا الشكل ستكون له عواقب وخيمة على القطاع الأوسع والأكثر معاناة من العاملين بأجر في مصر تتمثل في تزايد التفاوت في الدخل وانخفاض الأجر الحقيقي. هذا ما لم يتم الاتفاق في المجلس الأعلى للأجور، وهو المعني بوضع الحد الأدنى للأجور لعمال القطاع الخاص، على رفع الحد الأدنى للأجور لعمال القطاع الخاص بما يسد هذا التفاوت، واتخاذ إجراءات جادة وحاسمة لمنع موجات ارتفاع الأسعار، فضلاً عن تدبير مخصصات رفع الحد الأدنى للأجور دون إضافة أعباء جديدة على الفقراء. ولكن واقع الأمر أن قرارات كتلك تلقى معارضة شديدة من رجال الأعمال وممثليهم الذين يشترطون لرفع الحد الأدنى للأجور خفض اشتراك التأمينات الاجتماعية من 40% من الأجر إلى 20%، بما يعني أن ما سيدفعه صاحب العمل بالفعل لن يزيد تقريباً. وحتى عندما بدأت الدولة تبدي استجابة لهذا الشرط، أظهر ممثلو رجال الأعمال المزيد من التعنت بطرح بديل لرفع الحد الأدنى للأجور بالاكتفاء بوضع حد أدنى للأجر التأميني وليس الأجر الإجمالي.
في فبراير/ شباط 2008، تظاهر أكثر من عشرة آلاف عامل في المحلة للمطالبة بـ 1200 جنيه حدّ أدنى للأجور لكل عمال مصر، وأصبح بعدها مطلب الحد الأدنى للأجور على رأس مطالب الإضرابات والاحتجاجات العمالية في مصر. مرّت خمس سنوات واندلعت ثورة وسقطت ثلاثة أنظمة، وتبدّلت ست حكومات وعندما صدر أخيراً قرار بالحد الأدنى للأجور جاء مشوّهاً يصنع من الأزمات أكثر مما يحلّ، ويضيف إلى معاناة العمال معاناة أخرى. جاء قرار الحد الأدنى للأجور في مصر ليؤكد أن ما انتفض من أجله العمال والفقراء في مصر لم يتحقق بعد. وما ثاروا ضده هو بالذات ما ينبغي أن تستمر ثورتهم عليه.
* كاتب مصري