على وقع ما شهدته الأسابيع والأيام الأخيرة من تطورات نوعية في نشاط المقاومة المسلحة ضمن تصاعد واضح في أشكال جديدة للعنف الثوري المنظم (حادثة الاقتحام بالجرافة)، وفي المواجهات العنيفة التي دارت في بلدات عدة في الضفة المحتلة بعد الاشتباك المسلح الذي استمر لثلاث ساعات مع القائد في سرايا القدس محمد عاصي في أحد الكهوف، ما أسفر عن استشهاده. ومع سلسلة الحملات المنهجية لتهويد المسجد الأقصى، المترافقة مع الحفريات الدائمة لخلخلة أساساته، وبالتوازي مع هجمة وحشية لقطعان المستعمرين على أشجار الزيتون في موسم قطافه، تأتي بعض التصريحات لمسؤولين في الجانبين المتفاوضين لتعيد طرح الأحجية في مزاد من الكلام المستهلك عن «عملية السلام والشريك المفقود لإنجاحها»!
صائب عريقات، مسؤول ملف المفاوضات، وعضو قيادة حزب السلطة، يكتشف (!) أن «الجانب الإسرائيلي عبر ممارساته غير القانونية على الأرض يواصل تدمير عملية السلام في المنطقة»، كما جاء في تصريح له لإحدى وكالات الأنباء المحلية يوم 22/10. ويشير أيضاً، إلى «أن ملاحقة الفلسطينيين واعتقالهم وتشريدهم من بيوتهم يدلّل على نهج هذه الحكومة الرافض للسلام، كما أن ارتفاع نسبة العمليات الاستيطانية بنسبة 70% يضع عملية السلام على المحك».
أفيغدور ليبرمان، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» يقول في مقابلة أجرتها معه إذاعة العدو العامة صباح الأحد 20/10، كما نقلت صحيفة «إسرائيل اليوم» إن «رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ليس شريكاً لتحقيق السلام، وإنّه لا جدوى من السعي الآن للتوصل إلى تسوية دائمة، وبدلاً من ذلك يجب التركيز على تعزيز التعاون مع الفلسطينيين في المجالين الاقتصادي والأمني».
في الكلام السابق الذي قيل على الهواء، إشارات توحي بوجود أزمة استعصاء، سببتها المواقف «المتشددة» التي يتخذها رئيس حكومة العدو من القضايا المطروحة. وهو ما دفع ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الى شن هجوم عنيف على نتنياهو قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، متهماً إياه بمحاولة «كسب الوقت»، من أجل إطالة عمر المفاوضات لأكثر من تسعة أشهر.
صحيفة «معاريف» من جانبها، نشرت في 20/10 على موقعها الإلكتروني ما يشير إلى أنّ «المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية وصلت بعد شهرين ونصف شهر من انطلاقها إلى طريق مسدود، وأن نتنياهو يبدي تشدداً في المفاوضات، فهو يرفض أي تنازل في الترتيبات الأمنية لغور الأردن، بما فيها نشر قوات دولية عند المعابر»، بينما تضغط تسيبي ليفني لتقديم تنازلات في هذا المضمار. وبحسب الصحيفة، فـ«إن نقطة الخلافات هذه بين الطرفين قد برزت حتى قبل الخوض في المسائل الجوهرية للمفاوضات، مثل: القدس، واللاجئين، وتقاسم السيادة وترسيم خريطة المستوطنات والكتل الاستيطانية التي ستظل تحت السيادة الإسرائيلية». هذا الاستعصاء الذي تتطلب «حلحلته» اجتماع نتنياهو بوزير الخارجية الأميركي كيري في روما، من أجل «تليين» موقف حكومة العدو تجاه العديد من القضايا، بما يساعد على استكمال المفاوضات بدون أية تراجعات حقيقية في موقف حكومة المستعمرين الصهاينة.
إن الرغبة الأميركية تأتي في وقت تتحرك فيه قيادات عدة داخل معسكر العدو، سياسية، وعسكرية/ أمنية، متعددة، من أجل إعادة ضبط إيقاع العملية التفاوضية بما يحقق الهدف الصهيوني منها، ولو تطلب ذلك تقديم بعض «التنازلات الشكلية» للمفاوض الفلسطيني، من أجل تخفيف درجة العداء التي تسود قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني. بل ومن داخل البنى التي تقوم عليها السلطة (النقمة امتدت الى داخل «التنظيم» وإلى«شهداء الأقصى»)، كما صرح بذلك ضابط رفيع في وحدة «يهودا والسامرة»، الضفة الغربية، في جيش الاحتلال لصحيفة «يديعوت أحرونوت». أما يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي «الشين بيت»، فقد حذر في تصريحات أوردتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» على موقعها الإلكتروني يوم الاثنين 21/10 «من مغبة تزايد الإحباط في الشارع الفلسطيني، ما قد يؤدي إلى اندلاع انتفاضة جديدة ضد «إسرائيل» في حال فشل المفاوضات»، مشيراً إلى «أن هناك ضغوطاً متصاعدة في الضفة الغربية والإحباط الهائل من الفلسطينيين الذين يشعرون بأن أرضهم سرقت منهم للانتفاض من جديد». هذا الوضع القريب من حافة الانفجار الشامل، أشار إليه ضابط إسرائيلي: «كان الناشطون الفلسطينيون يترددون قبل الإقدام على أي عمل عدائي أو مسلح ضد إسرائيل، غير أن الأجواء الحالية السائدة في المناطق _ الضفة المحتلة _ تتيح إمكان الإقدام على هكذا أعمال من دون تردّد».
بعد ساعات عدة على استشهاد محمد عاصي، أجاب موشيه يعلون، وزير الحرب في حكومة العدو، رداً على سؤال صحافي في نهاية جولة قام بها في مدينة الخليل المحتلة، إذا كان يمكن وصف العمليات والحوادث الأمنية الأخيرة، بما فيها حوادث إلقاء الحجارة، بأنها «موجة» من العمليات، قائلاً: «نحن نتعامل مع تلك الحوادث كـ(موجة)، لأنها تتجاوز الإحصائيات والنسب التي سُجلت سابقاً».
إن المتابعة الدقيقة للحالة الشعبية الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة تشير إلى أننا أمام «موجات» حارة، متتابعة، تنبئ بمدّ ثوري لن يستطيع جيش الغزاة المحتلين وأدوات «التنسيق الأمني» ضبطه. إنه صرخة الولادة، لمولود قادم من رحم أرض الوطن، وليس من داخل غرف الولادات المشبوهة.
* كاتب فلسطيني