في غمرة «العرس الوطني» احتفاءً بعودة المخطوفين في أعزاز إلى أهلهم، سألني صديق مقرب إذا كانت عائلة جورج عبد الله ستقوم بواجب التهنئة. قبل أسبوع أو أكثر، كان الجواب بالإيجاب بديهياً، بل إنه لم يكن يحتاج إلى سؤال. فطالما اقترن اهتمام الرأي العام بقضية مخطوفي أعزاز بقضية الأسير جورج، ولطالما اختلطت معاناة أهالي مخطوفي أعزاز بمعاناة ومشاعر عائلة الأسير عبد الله. وفي فترات معينة بدت قضية الإفراج عن جورج أقرب وأسهل، وقيل كلام كثير على «أرفع المستويات» في موضع المقارنة، يفيد بقرب الإفراج عن عبد الله الذي أنهى «عقوبته» ويفيد بأن علاقات وثيقة تربط لبنان، دولة وبعض شعب، بفرنسا، بينما مخطوفو أعزاز يقبعون لدى جهات تكفيرية متعددة الولاءات والأهداف. وبالتالي ثمة سهولة ووضوح في التعامل مع ملف «انتهى قضائياً»، بالمقارنة مع ملف مخطوفي أعزاز وما يدور حوله من تعقيدات تلف المنطقة برمتها.في لحظة معينة بدت قضية جورج عبد الله موضع «إجماع وطني»، عبرت عنه مختلف التيارات الحزبية والكتل النيابية. لكن كلمة سر في مكان ما أدت إلى انفضاض الإجماع المذكور، إذا لم نقل إلى إجماع من نوع آخر، يقضي بوضع القضية على الرف، وإعادة دفنها كما كان حاصلاً على مدى سنوات اعتقاله الثلاثين. رويداً رويداً، راح يتلاشى ذكر اسم جورج عبد الله في وسائل الإعلام، ابتلع المسؤولون جميعاً تصريحاتهم الشاجبة والمستنكرة للافتراء الفرنسي المتمادي بحق من سمّوه مناضلاً، أو مقاوماً، وما إلى ذلك من نعوت كانت تشي أن جورج عبد الله سيعود مكللاً بالغار، وستفتح له أبواب الوزارات والمجالس ويقلد الأوسمة. ابتلع جميعهم الطّيب من الأقوال، وعادت قريحة فريق، كان قد لاذ بالصمت أمام موجة التبجيل بنضالية الأسير ووطنيته، فراح يتغنى من جديد بالعلاقات اللبنانية الفرنسية المجيدة، حتى إن رمزاً فنياً لبنانياً «مرموقاً» صرح من داخل السفارة الفرنسية بقوله صراحة أو وقاحة: «لبنان يحتاج لمئة سنة إضافية من الانتداب الفرنسي».
اقترب موعد الإفراج عن المخطوفين، وازداد التعتيم على قضية جورج، اللهم إلا من سؤال مقتضب، أفلت سائله من رقابة الوسيلة الإعلامية التي يعمل فيها. تمدد اهتمام الصحافيين واتسعت أسئلتهم، كذلك انفلشت حماسة المسؤولين وقادة الرأي. أبدوا جميعهم اهتماماً لافتاً بقضية المطرانين، بالمخطوفين في نيجيريا، بالسؤال مجدداً عن مصير الإمام المغيب السيد موسى الصدر، وبآلاف الأسرى المعتقلين في السجون الصهيونية، وهذا حسن، وإن كان بعضه، بل الكثير منه صادراً عن جهات وشخصيات لا شأن لها بكل ما ذكر.
اتسعت دائرة التشكرات، فشملت كثيرين ممن تآمروا على سوريا وفلسطين ولبنان وعلى المقاومة وسلاحها. وبمحض الصدفة لم يكن لفرنسا دور في إنجاز صفقة الإفراج أو التبادل، وإلا فربما كان اسم فرنسا وأسماء مسؤوليها سيصدح بها في سماء ضاحية العز والمقاومة، رغم أنها تعتقل أقدم أسير في تاريخ المقاومة. لم تأبه عائلة الأسير عبد الله لأصوات المتملقين وتجار اللحظة، فأمثال هؤلاء اعتادت العائلة رؤيتهم وهم يتقنون التنقل من ضفة إلى أخرى، دون وقفة تأمل ومن دون عذاب ضمير. مشهدان استوقفا العائلة: مشهد عناق المحررين لأهاليهم. لعله مشهد، ما من أحد أكثر من أفراد عائلة الأسير جورج عبد الله يدرك أعماقه ومعانيه وأبعاده. مفارقة المشهد الأول أن المكان لم يكن يتسع لمشاركة عائلة الأسير عبد الله، فالمكان موبوء بكثيرين ممن ذكروا آنفاً. أما المشهد الثاني، فيتمثل بترقب كلمة حزب الله، يلقيها عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي عمار. هنا، حاولت العائلة عبثاً أن تجد ضالتها في موقف يعوضها ما فات من تجاهل ومن تخلٍّ مورسا على مدى عقود خلت.
استمعنا جيداً إلى كلمة النائب عمار. مفارقة المشهد الثاني في تعبيره عن فرحة «كل اللبنانيين من دون استثناء» وبدءاً من «أقصى الشمال من عكار». استدرك عمار قائلاً: «الفرحة منقوصة»، فظننا أنه سيبدأ أيضاً من عكار، بل من القبيات، من عائلة الأسير جورج عبد الله. خاب الظن، حيث بدأ من سوريا مطالباً بالإفراج عن المطرانين. استطرد ثانية، فقال: «كما أنه ينقصنا أيضاً الفرحة باستمرار اختطاف الأخ المجاهد ابن العائلة الكريمة حسان المقداد»، يبدو أنه نسي أيضاً أن جورج عبد الله هو الآخر مجاهد، وأنه ابن عائلة تدعي أنها كريمة وأن لديها ابناً لم يبق في الأسر إلا لأنه مجاهد. وفاته في هذا المقام قول قائد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله: «نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون»، اللهم إلا إذا بات للأسرى، بعرف المقاومة، مواصفات لم يرق إليها جورج عبد الله!
*عضو الحملة الدولية لإطلاق سراح جورج عبد الله