أُُطلق مصطلح الإسلام السياسي على الحركات الإسلامية التي تسعى إلى إحداث تغييرات سياسية انطلاقاً من قناعتها بأن الإسلام ليس عبارة عن دين سماوي فقط وإنما هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي متكامل، قادر على بناء دولة بكل مؤسساتها وقادر أيضاً على حكم هذه الدولة بتطبيق الشريعة الإسلامية. أما مناهضو هذه الحركات فيعرفونه على أنه أفكار وأهداف سياسية تعتمد على الشريعة الإسلامية، تستخدمها مجموعة من المسلمين الأصوليين للوصول بطريقة أو بأخرى إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق رؤيتها للشريعة الإسلامية.وتختلف بدورها الآراء في تحديد زمان ومكان نشأة ظاهرة الإسلام السياسي، حيث يرى البعض أن بذور أفكارها زرعت في كتب ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم من المنظرين، الذين فتحوا الطريق أمام هذا الفكر ليبني عليه اللاحقون أسس نظرياتهم ومشاريعهم.
آخرون رأوا أنّ الإسلام السياسي بدأ يتبلور على نحو واضح على يد محمد بن عبد الوهاب الذي ربط الدين بالسياسة، وأسّس لفكر انتشر على مساحات كبيرة في العالم العربي وغير العربي.
بعضٌ آخر رأى أنّ حركة الإسلام السياسي بدأت بعد انهيار الدولة العثمانية وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا العلمانية وإلغائه للخلافة الإسلامية عام 1924، لتتوّلد بعد ذلك قناعات تعتقد بتراجع تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنّ هناك خطراً يتهدد العالم الإسلامي وخاصة بعد وقوع العديد من الدول الإسلامية تحت انتداب الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وكان من نتائج ذلك أيضاً نشوء حركة الإخوان المسلمين في مصر، التي أسّسها حسن البنا في مصر عام 1928.
وجهة نظر غربية ترى أنّ نشوء ظاهرة الإسلام السياسي سببه انخفاض وضعف المستوى الاقتصادي لمعظم الدول في العالم الإسلامي ما سمح بظهور حركات اشتراكية في بعض الدول الإسلامية تحت تأثير الفكر الشيوعي، وجاء انهيار الاتحاد السوفياتي ليخلف فراغاً فكرياً يرى المحللون أنّه ساعد على تكريس الأفكار التي تقول إنّ السبب الرئيس في تخلف وتردي المستوى الاقتصادي والاجتماعي هو ابتعاد المسلمين عن التطبيق الصحيح لنصوص الشريعة الإسلامية وتأثر حكوماتهم بالسياسة الغربية.
ومن الجدير ذكره أنّ القضية الفلسطينة والصراع العربي ــ الإسرائيلي وقضايا العرب الأخرى، مهّدت الساحة لنشوء فكرة أنّ السياسة الغربية مجحفة وغير عادلة تجاه المسلمين وتستخدم مفهوم الكيل بمكيالين، ما ساعد على نمو القاعدة الشعبية لمناصري حركات الإسلام السياسي.
تعتبر دول مثل إيران والسعودية، وباكستان ونظام طالبان السابق في أفغانستان والسودان، والصومال وتركيا نماذج عن حكم الإسلام السياسي، إلا أنّه في عدد كبير من الدول الأخرى، ورغم الانتقادات والحملات الأمنية ضده حقق الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة مكاسب أوصلته في بعض البلدان إلى سدة الحكم، وفي بعضها الآخر حقق حضوراً مؤثراً على النظم الحاكمة، كما تمكنت حركات الإسلام السياسي من التحول إلى قوة سياسية معارضة في بعض بلدان غرب آسيا وبعض دول شمال أفريقيا. كذلك نجحت بعض الأحزاب الإسلامية في الوصول للحكم في بعض الدول العربية مؤخراً مثل حركة حماس في فلسطين ومصر وتونس والمغرب.
ومن متابعة حراك ونشاط هذه الحركات ونتائجها على اتساع المساحة التي تواجدوا فيها، وعلى اختلاف أزمنة حضورهم وحراكهم، نجد أنهم دائماً كانوا يتطلعون إلى الوصول إلى دولة الخلافة التي تضم العالم بأركانه الأربعة تحت رايتها، ويرفعون الشعارات والأهداف التي تعبر عن هذه التطلعات، حيث ترفع هذه الحركات على اختلاف أحجامها وإمكاناتها وأماكن تواجدها شعارات وترسم أهدافاً وغايات تتجاوز إمكاناتها وقدراتها، رغم الدعم الكبير لبعضها من دول أو جهات أو هيئات ومنظمات إسلامية تسعى من خلال هذه الحركات إلى تحقيق الحلم الأكبر، حلم الخلافة الإسلامية. وإذا نظرنا إلى النماذج التي تسلمت الحكم والأنظمة في عدد من الدول مثل السعودية وإيران وباكستان وافغانستان والصومال وتركيا ومصر وتونس وحركة حماس في قطاع غزة، جميعها لم تتمكن من تحقيق الشعارات والأهداف التي نادت بها، كما لم تتمكن من إقناع العالم الآخر الذي تعيش دون أن تتعايش معه أنها قادرة على انتاج أنظمة مؤسساتية غير إقصائية أو غير شمولية وتوفر لمواطنها الحريات والحقوق والاستقرار ومستوى العيش اللائق وفق المعايير الإنسانية والدولية المطلوبة.
بدا النموذج التركي متمثلاً بحزب العدالة والتنمية، في بدايات حكمه، أنّه سيشكّل مثالاً يحتذى للإسلام السياسي في إدارة الدولة، وحقق في سنين إدارته الأولى انجازات ونجاحات في السياسة والاقتصاد وغيرها من مجالات الحياة، إلا أنه سرعان ما خسر النسبة الأكبر من رصيده داخلياً وخارجياً، حين لامست أزمات المنطقة ما كان يخفيه من إيديولوجيا تعتمد على ركائز حركات الإسلام السياسي التي كرس من خلال ممارساته لها أنها إقصائية ولا تعترف بالآخر إلا من خلال وجهات نظرها الخاصة التي تعكس ضيق البصيرة في التعاطي مع الآخر. ولم تنجح حركة الإخوان المسلمين في مصر أيضاً في الخروج من الدائرة الضيقة التي وضعت نفسها فيها، حين حاولت الاستئثار بالحكم والاستفراد به، دون الاكتراث بحقائق ووقائع الجغرافية والتاريخ والشعب والمستقبل.
في النماذج الأخرى للدول والممالك والأنظمة التي يقودها الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبه ومشاربه، وعلى اختلاف نقاط قوتها الاقتصادية أو العسكرية أو غيرها، وعلى اختلاف الانجازات التي حققها كل نموذج، والصور المصدرة إلى الخارج، لم يصل أي منها إلى درجة الإقناع لأيّ من الجهتين اللتين يستهدفهما (الداخل والخارج) في آليات حكمه أنه قادر على ترجمة هذه الآليات على المستوى الداخلي إلى مكاسب وحقوق وحريات لمواطنيه. كذلك لم يتمكن من تصدير صور جميلة ومشجعة للخارج لدفعه للاعتراف بنجاح ومصداقية هذه الأنظمة وقدرتها على تحمل مسؤولياتها، والنهوض بالدولة وليس المشاركة بتحويلها إلى دولة فاشلة.
في المحصلة نجد أن الواقع الذي أنتجه حكم الإسلام السياسي حتى الآن لم يلبِّ تطلعات وآمال قاعدته الشعبية، بل خذل أيضاً شرائح كبيرة ونخب وجهات تعاطفت معه لاعتقادها أنّ وصوله إلى سدة الحكم في هذا الوقت، وعلى قاعدة شعبية كبيرة كما كان يظهر للجميع، سيكون فرصة تاريخية له ليترجم مشروعه السياسي الكبير إلى واقع ملموس يؤكد قدرته على تحقيق الأهداف التي طرحها في تأمين متطلبات واحتياجات الشعب الاقتصادية والحياتية، إضافة إلى توفير الحريات والحقوق المشروعة للمواطن، وفتح آفاق التطور والتقدم للدولة للانتقال بشكل دائم نحو الأفضل على الصعيدين الداخلي والخارجي، لنصل إلى قناعة تقول إن الإسلام السياسي لم يكمِّل اتساع بصره باتساع بصيرته، لينتج في وقتنا الحالي واقعاً أقل ما يقال فيه أنه أخفق في تحقيق أبسط اهدافه وغاياته.
* إعلامي سوري