تُظهر مجمل السجالات الدائرة حول صلاحيات مجلس الوزراء في مرحلة تصريف الأعمال، وحول علاقة الحكومة بمجلس النواب في هذه المرحلة، وحول صلاحيات المجلس النيابي في تناول الملفات أو درسها في مرحلة تصريف الأعمال... وكذلك سجالات تتناول ملفات حساسة كملف الأمن والسلاح والنفط والبيان الوزاري العتيد، يُظهر كل ذلك وسواه مما لم نذكره أنّ ما يوجّه عمل المؤسسات ومواقف القوى السياسية الرئيسية من الملفات والأولويات، إنما هي الاعتبارات والمصالح الفئوية والنفعية، لا الاعتبارات والمصالح الوطنية العامة.
ملف النفط الذي يدور بشأنه سجال حاد بين حليفي الإكراه والضرورة (حركة أمل والتيار الوطني الحر) يشكّل آخر مثل على ما نقول وليس الأخير.
لقد خضع هذا الملف الحيوي، بل المصيري، منذ البداية، لتجاذبات وصراعات المؤسسات والأجهزة والأطراف السياسية. وكالعادة، اقتحمته المحاصصة، باسم الطوائف والمذاهب، من بابه العريض. وها هو اليوم أحد الملفات العالقة على أبواب العجز والفئويات، إلى أن تقضي الاعتبارات الخارجية أمراً كان مفعولاً!
والاعتبارات الخارجية التي ينتظرها لبنان واللبنانيون (أي الحكام في طرفي معادلة السلطة والصراع على السلطة والمواقع والمواقف والعلاقات الخارجية...) تمتد من أقصى الدنيا إلى أقصاها: من جنيف النووي الإيراني إلى جنيف ـ2 المتصل بالأزمة السورية. هنا وهناك أيضاً، تتداخل ملفات استراتيجية دولية في حقول الاقتصاد والأسواق والمواد الأولية... وكذلك في حقول الأمن والمواقع الاستراتيجية في الجو والبر والبحر، إلى مسائل الديموغرافيا والأقليات وعمليات الفرز والضم المتصلة بذلك، إلى أدوات الصراع، وهي أدوات قذرة في الغالب الأعم، تقوم على استخدام القوة أو التهديد بها، وعلى القتل والاغتيالات وإثارة الغرائز والانقسامات من خلال تغذية العصبيات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية والمناطقية.
يتصل بالأزمة اللبنانية واحتمال التوصل إلى تسويات بشأنها، ما يجري في العلاقات بين السلطة والمعارضة في دمشق. وكذلك ما يجري بين المعارضة والمعارضة، وما يجري في «الغوطتين»، وفي محيط السيدة زينب، وفي الحسكة، وفي كردستان العراق. وما يجري أيضاً بين «المجلس الوطني» و«الائتلاف». وطبعاً الصراع، شبه المعلن، ما بين السعودية وقطر، وبين السعودية وإيران، وبين السعودية وتركيا. هي تنتظر أيضاً ما يجري في مصر واحتمالات الصراع فيها، وفي الأردن الذي يتلوّن ملكه كالحرباء على إيقاع توازنات الصراع في سوريا ووفق جرعات الدعم المطلوب والمخاوف المتوقعة بسبب الخيارات أو بسبب سوء اعتمادها أو سوء استخدامها.
نعم، سوف ينتظر ملف النفط في لبنان ملف تشكيل الحكومة. هذا الأخير سوف ينتظر قرارات قادة أجهزة استخبارات عربية لا تعمل بدورها، وخصوصاً في هذه المرحلة، من دون استشارة مرجعيتها في موسكو أو واشنطن. لقد جرى تدويل كامل للأزمة السورية. وحيث إنّ لبنان وسوريا «شعب واحد في بلدين»، كما قيل يوماً، فإن التدويل قد شمل أزمة الحكم والحكومة في لبنان إلى أبعد الحدود.
لا يعني هذا الأمر أن الأمل مفقود في تشكيل حكومة في لبنان! ولا هو منعدم في عقد جلسة لحكومة تصريف الأعمال تتناول فيها، حصرياً، موضوع النفط وتلزيمه وإبداء الرأي في النزاع بين الوزيرين علي حسن خليل وجبران باسيل بشأن «البلوكات» وعددها وشروط تلزيمها. هذا أمل قائم طالما أن مفاوضات الـ 5+1 قطعت شوطاً لا بأس به في التعامل مع الملف النووي الإيراني، بالاستناد إلى «مقاربة جديدة» اعتمدتها حكومة الرئيس الجديد الشيخ حسن روحاني!
لا يجب أن ننسى أيضاً احتمال عقد جنيف ـ2 في 23 تشرين الثاني المقبل. ولا يجب أن نقلّل أيضاً من النتائج التي ستنجم عن اجتماع «أصدقاء سوريا» قريباً، وعن الاتصالات الخفية والعلنية لترتيب العلاقات بين أطراف المعارضة السورية، من «داعش» إلى «المجلس الوطني» و«الائتلاف»، إلى الدوحة والرياض وأنقرة وباريس والقاهرة... إلى آخر الكابوس الرجيم.
لا بد من الانتظار على الأرجح: شهور عدة أو سنوات أو عقود... لا بأس، نستطيع إدارة شوؤننا، كالعادة، بترك «الشطارة» اللبنانية تقوم بواجبها في إدارة الحياة وتأمين التوازنات وتبادل الملفات: على طريقة «لا غالب ولا مغلوب»، أي أن «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم».
لا بأس أيضاً من الحديث، في أثناء فترة الانتظار، عن السيادة والقانون واحترام الأصول والسلاح الفالت والحرص على المؤسسات. ولا ضرر أيضاً في تبادل السجالات والاتهامات حول التطييف والتبعية. ولن تذهب التوترات الأمنية بعيداً طالما أن القرار من الخارج لم يصدر بما هو أدهى وأمرّ. وطالما أنّ الذكاء اللبناني (بل الدهاء اللبناني) قادر دائماً على اشتقاق صيغ الولاء للخارج والارتباط به عبر السين ــ سين، أو الألف ــ سين (إيران والسعودية)، وطالما أننا قادرون على قراءة المتغيرات والمستجدات، بشكل استباقي، كما يفاجئنا الأستاذ وليد جنبلاط، أو بشكل بطيء، كما يفعل الآخرون.
إنها «المعجزة» اللبنانية إذاً! بل هي المأساة اللبنانية. مأساة وطن وشعب، لم يتوافر لهما حتى الآن، وبعد حوالى ستة عقود من الاستقلال، الحد الأدنى من المقومات والمستلزمات في جميع الحقول ليكونا جديرين بالتسمية وبشروطها: نحن وطن تتكاثر فيه، كل يوم، الأوطان والدويلات. ونحن شعب مشرذم ينتظر «رحمة» أن لا يتحول تقاسمه وانقساماته إلى تقسيم وتفتت وضياع!؟ لكن، ماذا عن البديل؟
* كاتب وسياسي لبناني