تبدو فكرة «عدم التجانس» في «المجتمعات» العربية، كاكتشاف فريد وخلاق، يطرحه العديد من «المفكرين» كاستراتيجيا لتوحيد «المجتمع» في العالم العربي، مدعين أن عدم التجانس هو معضلة كبرى، تواجه نهوض هذه «المجتمعات» لتأخذ مكانها تحت الشمس بين الأمم.
يبدو طرح عدم التجانس أطروحة فكرية، حق لطارحيها كوجهة نظر ورأي في أحوال هذه الشعوب، حتى لتبدو بريئة علمياً من أي شائبة، كجهد في درب تشخيص العلة التي تعاني منها جماهيرنا وتقطع عليها طريق النهوض والإنجاز، ولكن عدم التجانس هذا وكدعوى تفكيرية، يبدو موارباً وتلفيقياً إذا لم نقل احتيالياً، فتسويق فكرة عدم التجانس تحت غطاء من التطريز التفكيري، تجعل الفأر يلعب بالعبّ، ثقافياً، بمعنى أن هذا خطأ معلومي واضح، يراد تسويقه كفكرة معرفية، بعد عمليات سبر وتجريب عبر الإعلام والمنابر «الحرة»، ومن ثم تعميمه كبضاعة قابلة للممارسة العامة، بين الشرائح التي اقتنعت بعدم تجانسها، وعليها إما أن تتجانس، أو تهاجر، أو تموت، فاستحقاقات وجود «مجتمع» تقتضي متطلبات كهذه في المراحل التالية، أي ما بعد اكتمال «نظرية» عدم التجانس هذه.
لم يفصح أي من مقدمي دعوى عدم التجانس عن ماهية هذا العدم، ولم يفصحوا كذلك عن معنى التجانس، تاركين للمتلقي وضع تصوره، دون أية شروط معرفية أو معلومية؛ فعدم التجانس، وإن كان المقصود به وبمواربة شديدة، هو عدم التجانس الديني والمذهبي، إلا أن أدوات الإخبار اللغوية، تتيح تملصاً من هذا المقصد، اتكاءً على عمومية اللفظ وفخامتة، ولكنها تتيح للمتلقي/ المستهلك العمومي تحويلها إلى مصطلح/ ذريعة، مفتوحة على تقدير عدم التجانس والتصرف بشأنه. من هنا تبدو ضرورة إيضاح هذا الطرح، وتقديمه كسلعة غير مغشوشة، على الأقل، وليست مغشوشة عن سابق تصور وتصميم، إذ لا تكفي اللمحاحة الاستنتاجية للوصول معرفياً، إلى نظرية كهذه تتصل بالشأن وبالمصير الجماعي العام، وخصوصاً أنها تتكلم على بشر موجودين على قيد الحياة لحد الآن!
على أي تجانس نتكلم؟ وأيَّ عدمه نعلن؟ والأهم أي «مجتمع» نقصد، فالكلمة ليست مرمية في فراغ! فإذا كان المجتمع موجوداً، فكيف لنا بالقول بعدم التجانس، وإذا لم يكن موجوداً، فعلينا التفكير معرفياً بكيفية إنجازه أو توليده أو تأسيسه بمن هم على قيد الحياة أو العيش، فإذا كان عدم التجانس معضلة أو عضالاً فعن ماذا نحكي؟!
عدم التجانس هذا، قد يعني أي شيء، وقد لا يعني شيئاً على الإطلاق، فالتعبير عمومي مرسل، على الرغم من صياغته المنمقة، وادعائه المعرفة، إذ لا لزوم لمجتمع إذا كان التجانس موجوداً، وأطروحة عدم التجانس تدفع الجماهير كي تستخدم إرادتها، في التأسيس للمصلحة العامة، بواسطة العقد الاجتماعي الدنيوي، وليس في بذل مجهوداتها من أجل إقامة التجانس، الذي يقوم على دعائم عنصرية واضحة، على الرغم من بروز ذريعتي الواقع، والأكثرية، كإطلالة من الشرفة الخلفية على الديموقراطية. وإلى ما هنالك من طروحات سياقات معرفية عشوائية وغير مجتمعية، تجعلنا وكأننا لم نزل أمام استحقاقات الثورة الفرنسية، أي في عمر مجتمعي طفولي، على الرغم من كل هذا الزمان الذي تلا (طبعاً لم يعد يقاس بالمقاييس السالفة)، وكل هذه الإنجازات البشرية، التي حولت المفاهيم التي تراكمت إلى تكنولوجيات قابلة للاستثمار والارتقاء.
لم يتوقف «المجتمع» في هذه الدنيا عند مفهومه الفلسفي أو الأيديولوجي، (وكذا الدولة والمؤسسات)، بل تحولت المفاهيم إلى تكنولوجيات تنفيذية يستخدمها بنو البشر لإدارة أمورهم في سبيل التقدم على طريق الشبع والمنعة، تماماً كما مفاهيم الفيزياء والرياضيات التي تحولت إلى تكنولوجيات استهلاكية موازية؛ فالعدالة أو المساواة مثلاً لم تعودا مجرد مفهومين معلوماتيين، بل تحولتا معرفياً إلى ممارسة وفعل موجود بقوة تكنولوجية الدولة ومؤسساتها، ومن هنا تبدو التكنولوجيا محايدة وباردة ولا تحتاج إلى تجانس، بل إلى إرادة، إرادة الناس المصنوعة من ثقافة وتربية على القيم العليا.
الجهل هو القوة الرئيسية التي تقف وراء عدم الإقدام على توليد المجتمع، وبالتالي الدولة، وهي المسؤولة عن تهيئة الذرائع لأطروحة عدم التجانس هذه، التي تستدعي طلاقاً فئوياً ماحقاً أو دمجاً قسرياً، حيث يتخيّل أصحاب الأطروحة نجاحاً ناجزاً في تأسيس «دولة» إن تحقق حلم التجانس، لندخل في متاهات بيزنطية حول النظرية والتطبيق، في مهزلة تشبه إلى حد بعيد طقوس الطب الشعبي.
ماذا تفعل الشعوب العربية وقد وجدت «غير متجانسة» كما غيرها من شعوب الأرض؟! كيف للسويدي أو الكوري أن يولد مجتمعاً يفرز دولة واقتصاداً ومنتجات ثقافية، ولا يستطيع العربي ذلك؟ وهل عدم التجانس بكافة معانيه ومقاصد طارحيه، نعمة أم نقمة؟
ومع أنّ هذه الأسئلة السابقة أصبحت مهترئة وقديمة ومستعملة، إلا أنّ كميات الجهل المتوافرة، تجعل منها طازجة، دوماً، على الرغم من استحقاقات العصر تضعنا أمام حاجتنا إلى أسئلة جديدة، إلا أن كمية وافرة من منتجي الثقافة يصرون على البحث في مسائل آفلة كهذه، وبطريقة فيها الكثير من الاكتمال المعرفي الذي لا يأتيه الباطل (وليس الخطأ) من أي مكان، يخترعون تشخيصات تقود إلى كوارث غير مجربة سابقاً، بدلاً من البحث عن آخر مبتكرات التكنولوجيا المجتمعية ومحاولة استخدامها في أطروحات بنائية، بهدف تجنب كارثة التخلف القائدة إلى الجوع والاستباحة. ربما كانت أطروحة عدم التجانس واحدة من منتجات الجهالة، التي لم تلحظ التكنولوجيا التي تدار بها المجتمعات منذ فترة طويلة، أو اعتبرتها تافهة وغير أصيلة، لأنها ترى أنّ التجانس هو تجانس حقوقي يقترح المساواة، كي تستطيع هذه التكنولوجيا العمل في استثمار الحياة الإنسانية، من هنا تظهر عنصرية هذا الطرح الذي يريد تجانساً حقوقياً مختلفاً؛ فالمساواة مسألة تبدو مستحيلة في ظل منظومة في ظل نوع كهذا من التفكير. لذلك يبدو عدم التجانس في نظرها خطيراً إلى هذا الحد.
والآن ليقل لنا أي جهبذ من هؤلاء الجهابذة، وبالمحاكمة المعرفية المعاصرة، بماذا هؤلاء العرب غير متجانسين؟ بحيث أصبح عدم التجانس معضلة الوحدة المجتمعية المطلوبة؟ وليقولوا لنا بالمناسبة، لماذا كل هذا الاختيار لطرق جانبية وخلفية، ما دامت الطريق واضحة تماماً، والأهم وهذا ما نراه أمامنا كنتائج، ماذا يفعل أصحاب أطروحة عدم التجانس لإزالته من الوجود من هذه الدنيا على الأقل... طبعاً سيتلافون الأسئلة على طريقة النعامة.
* سيناريست سوري