قضايا المشرق | «لا أريد الحور العين، بل أريد الزواج بخطيبتي التي أحبها». هكذا أجاب مهدي ياغي على سائله أثناء تسجيل وصيته عام 2009. ويردف: «أوصي أصحابي، عندما يستذكرونني في سهراتهم، مش ضروري يقرأوا قرآن»، يريدهم «أن يلعبوا بورق الشدة لعبة «الأونو»، وأن يحدثوني عن مشاكلهم ومجريات حياتهم، فبمقدوري أن أسمعهم. وعندما ستأتي قناة المنا، بعد استشهادي»، يوصي والدته، «لا تقولي لهم كان مؤمناً وغير ذلك من الكلام الجاد، فأنا مجرد ابنك الذي تحبينه. قولي إني كنت إنساناً طيباً فقط». وبعد أن يقر بصعوبة تلاوة القرآن بجدية وخشوع، «لأني غير متعود على ذلك وكنت فاشلاً في الإعراب أثناء الدراسة» يتساءل إن كان أبوه سيسامحه «فلقد أتعبته كثيراً وأوصيه بأن يستمر في كده وعمله من أجل تأمين لقمة العيش للعائلة». ثم يفيض حباً وإنسانية عندما يعترف، برفقة ابتسامة خجل وملامة للذات، «كنت أحب تقبيل أمي كثيراً ولكني قلّما فعلت ذلك... من شحارنا وتعتيرنا لا نعرف كيف نحكي ونعبّر». وأكثر ما كرّره مهدي ياغي، في وصيته المسجّلة قبل أربع سنوات من استشهاده، هو طلبه من جميع أقاربه ومعارفه أن يطلبوا له السماح.في دقائق قليلة، مسجّلة، نجح مقاتل من حزب الله، في انتزاع دمعتي الممتنعة وإرجاف قلبي والطواف بي إلى حيث ترتاح النفس ويكتمل الشعور بالمعنى. أحسست بأنفاس أبي ورأيت أهلي وأقاربي وأبناء قريتي وعموم أبناء منطقة بعلبك ــ الهرمل، من كل الطوائف والمذاهب، ممن تشاركوا الفاقة والقهر المزمن والتهميش المتمادي حدّ القطيعة. واستذكرت كذلك، مقاومين أبطالاً، بعضهم استشهد، من أبناء هذه المنطقة – الخزّان، التي بقيت تعطي دون أن تأخذ، تماماً كما يشعرنا مهدي. جميلٌ هو مهدي ياغي في وصيته، بل حقيقي وصادق إلى أبعد حد: مع نفسه ومع كامل الجمهور الذي سيستمع إلى وصيته. كأني به شعر بأننا لن نملّ من تكرار سماعه، وعيناه ترقصان سعادة وابتسامته الجذابة تخفي عفوية وبراءة لا يخطئهما قلب، فأوغل في أرواحنا وأمعن فينا تعرية لما علق على عذريتنا من متاع الحياة وأقنعتها. وصية الشهيد ـ هذه المرّة ـ تضجُّ بالحياة، بل هي ليس فيها سوى الحياة، وأي حياة؟ الحياة البسيطة بمختلف عناصرها من أهل وصحبة وفقر ومعاناة وحب وقهر. هكذا ينكشف «المجاهد في المقاومة الإسلامية» بصفته كائناً عادياً، هو ابن بيئته، طبيعياً كأقرانه، يتميز عنهم بكونه قرّر الالتحاق بالمقاومة. حضور البيئة المحلية هو الطاغي عند مهدي الذي يطربنا بلهجته البعلبكية المحببة وعفويته التي تعكس براءة الإنسان وهي، بعدُ، نطفة. هو إنسان، إذاً، ومعه نعيد اكتشاف أنّ البطولة، في هذا العصر أن تكون إنساناً! إنسانٌ في ظل شرط اجتماعي، هو المقاوم عند حزب الله، مثلما هي حال المقاومين في الأحزاب الوطنية الباقية. وباعتقادي، إن الإقرار بذلك صار واجباً، من قبيل الإقرار بالواقع والاعتراف بالحقيقة: المقاومة هي جزء عضوي من النسيج الاجتماعي وحزب الله ليس ميليشيا معزولة، بل إن تنوع «الاجتماعي - المحلي» فيه، هو الذي يجعل اندماج بنيته أمراً انسيابياً. لا بل إن وصية مهدي هي دليل قوي وقاطع على «لبنانية» الحزب المتشكلة من مجموعة «محليات» تتعاضد وتتكامل. ومثل هذا الكلام لن يعجب المستشرقين، من اللبنانيين والعرب، ذلك أن مهدي يشكل تحدياً لمقولاتهم القائمة على نفس «انتروبولوجي» مؤدلج بقوة... فمقاومو حزب الله ليسوا واحداً بل كثيرون، متنوعون ومختلفون؛ لأنه، ببساطة، لا يجري «توليدهم» في مصانع «الولي الفقيه» ولا «استنساخهم» عبر القدرات العلمية الإيرانية. لا يشبه «البعلبكي» منهم أخاه «الجنوبي»، ولا ابن العائلة الميسورة يشبه ابن العائلة الكادحة، كذلك إن ابن المدينة لا يشبه ابن الريف. نطق مهدي بلسان مجتمع كامل، نصف بدوي – نصف فلاحي، ممتد في بيداء بين جرود مفتوحة على سوريا، هو مجتمع العشائر والعائلات البعلبكية. وهو يقيناً لا يشبه، في معاناته، المجتمع الفلاحي الزراعي فوق هضاب الجنوب المطلة على البحر والهجرة المبكرة. وهو بذلك كان تعبيراً عن اجتماع سياسي، لا عن حالة دينية.
فهل نبالغ، إن نحن قلنا إن مهدي دمّر خطاباً وأنشأ خطاباً جديداً؟ كانت وصايا شهداء «المقاومة الإسلامية» مفعمة بالتوق إلى ملاقاة الرسل والأئمة ومتعالية على الدنيا «الفانية». وصورتهم لم تكن يوماً إلا صورة مقاتلين أشداء، نادراً ما يعلن عن علاقاتهم الإنسانية ودائماً بتقنين، يهدف غالباً، إلى الشحن والتعبئة. لكن الأمر مختلف تماماً مع مهدي ياغي الذي يصرخ بأسطع ما تبرق عيناه وبأصدق البوح، ليقول إنّه بشر مثلنا، من لحم ودم، ومشاعر وأحاسيس آدمية وطبيعية، يعاني مثل ابن عمه العلماني أو جاره الملحد، ما قد لا يعانيه، بالضرورة، شريك له في الخندق. ونحن نحتاج أن ندرس هذا الجديد وأن نفهم معاني تبلوره داخل حزب كحزب الله. ألغى «خطاب» مهدي، العلاقة النفعية التي تربط الإيمان الديني بالجهاد. فهو لا «يقاوم» من أجل الفوز بالحور العين ولا يشبه، بالتالي، أولئك «الإسلاميين» الذين يقتلون العشرات من البشر «الأرضيين» تحت راية الجهاد، لكي يفوزوا، في السماء، بسبعين حورية، والبعض يحتفظ لهنّ، بعدد مناسب من حبوب الفياغرا! وعندما يقول إنه لا يريد الحور العين، بل أن يتزوج بخطيبته التي يحبها، ألا يفصل، بذلك، بين إيمانه ومقاومته وبين حبه والجنّة؟ فما الذي يجعله، في هذه الحالة، مختلفاً عن أي عاشق أو علماني؟ ويدحض مهدي في جديد خطابه، المزاعم والشائعات والدارج عن صورة مقاتلي المقاومة الإسلامية في بعض الأذهان. فهم ليسوا معصومين، ولا هم متنسكون في محراب لا يغادرونه إلا لقتال العدو. بالعكس يؤكد مهدي، الذي لا ينفك يطلب المسامحة، أنهم خطّاؤون. مجرد بشر مثلنا جميعاً، لهم حياتهم اليومية ومشاعرهم وهواياتهم وعلاقاتهم، يكرهون كما يحبُون، ولكن يسامحون ويطلبون لأنفسهم السماح من الآخرين، حين يستشهد أحدهم، في تأكيد إضافي لإيمان منفصل عن السياسة. وجديد الخطاب، أيضاً، هو التوق إلى تجاوز الضغوط والقيود الدينية والاجتماعية التي تكبت الطاقات الشعورية الداخلية، اكتساباً لمحترمية زائفة وغير إنسانية. فهذا الشاب العشريني، على عفويته وحيويته، يسرّ لإمه، في وصية استشهاده، كم كان يحبُّ معانقتها وتقبيلها ويودُّ لو أنه كان يفعل ذلك كل ساعة ربما. وفي كل ما قيل للأم والأب، لا يحضر الديني في كلام الابن، بل الاجتماعي والإنساني والعاطفي. نحن أمام خطاب يضع الدين جانباً، يحصره في علاقة فردية، ويفصله عن السياسة التي هي، معاً، في خيار المقاومة والكدح للقمة العيش. فمهدي الذي يفيض، من ذاته، مقاومة، «ينحّي» الجنّة بكل حورياتها، من أجل خطيبة تمشي فوق الأرض!
لكن الجديد الفعلي قد لا يكون في القول نفسه، ليس فقط لأنه يعود لأربع سنوات خلت ولعلّه كان حاضراً منذ زمن أبعد، بل إنّ الجديد هو في «قرار الإفراج»، الذي اتخذته الرقابة الحربية، عن وصية فيها كل هذه الحياة. إن إسقاط «الرقابة» عن وصية مهدي، يعني، على ما يبدو، أن «النواة الصلبة» في حزب الله والمقاومة، لا ترى (أو لم تعد ترى) ضيراً في أن يكتشف الجمهور، في لبنان والعالم العربي، أن مقاتلي هذه المقاومة هم، رغم «إسلاميتها» وإيمانهم، أناس عاديون وطبيعيون. ولعلهم، في الحزب، لم يكونوا كذلك لحظة النشأة وفي مرحلة النمو. ولعلهم ليسوا كلهم كذلك الآن. في الحالتين، ما هو مهم ولافت، أنه في هذا الحزب «الديني» شباب يقاتلون من أجل الحياة، الأفضل، ليس طمعاً بالجنّة، ولكن دون أن يهابوا الموت، الذي إنّما هان عندما صار شهادة في سبيل قضية، مبدئية وعيانية في آن. يظهر حزب الله، بذلك، حزباً سياسياً (مقاوماً)، تقع العقيدة الدينية عنده، موقع الأيديولوجيا، عند كل حزب، ووسيلة التعبئة وضمان التماسك. بمعنى آخر، نبدو أمام حزب مقاوم وليس حزباً دينياً. والمقاوم فيه، يشبه مقاومين شيوعيين وقوميين وبعثيين وناصريين استشهدوا من أجل قضية التحرير، ولم يكن ذلك طلباً لجنّة. ولكن ما الذي استجدّ حتى تقرّر إعلان هذه «الحقيقة»؟ ذلك، أيضاً، يستدعي التفسير لمعرفة كنه ما يبدو جديداً في «عقل» حزب الله والمقاومة. فهل هذا هو ردُّ المقاومة على مخططات «شيطنتها»؟ أن تتعرّى إنسانية أبنائها (أحدهم) بمنتهى العزّة المتجاوزة للقهر الدفين؟ أم هي طريقتها في «التنصل» من ممارسات الإسلام السياسي الذي أثبت عجزه وعزلته وانشغال معظم رموزه، وخصوصاً، على خط فتاوى الجنس والقتل والإجرام؟ أم هو كل ذلك، متصلاً، عبر حسّاسات الوضع المحلي والإقليمي، بالنداء الصامت حدّ الضجيج، من أجل أن تبقى المقاومة لأبنائها وشعبها قبل أي شيء آخر؟ لا نظن في الأمر تخطيطاً، فعفوية مهدي تقطع كل شك، لكنها الضرورة الموضوعية يقدمها التاريخ على شاكلة صدفة أحسن الإعلام الحربي في استخدامها، معلناً، بذلك، اكتمال المعنى. والمعنى العميق هو أن المقاومة هي بحد ذاتها هويّة، مستقلة عن، ومتجاوزة للطوائف والمناطق والحدود، لها ثقافتها كما لها منطقها الخاص. والمعنى الأعمق، شاء حزب الله أو أبى، أن هذه الهوية لا يمكن أن تكون خارج السياق الوطني والعروبي، لا بل العلماني. ويشكل دخول الحزب بمقاوميه إلى سوريا، والمشاركة في الحرب الدائرة فيها، قفزة جبّارة، نقلته إلى رحاب هذا المعنى. فالدور المقاوم في سوريا يقع في صلب النضال ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وهذا ما يفسر وقوف الحركة الشيوعية واليسارية العالمية إلى جانب حزب الله. كذلك إن الدولة السورية هي دولة علمانية حتى النخاع، في مؤسساتها وثقافتها وتربيتها كما هي الحياة الاجتماعية في سوريا، حيث يستقل الدين عن الدولة التي توليه ما يناسب من احترام وتقدير. وفي سياق خوض هذه الحرب، من هذا الموقع «الموضوعي»، يتقدم حزب الله والمقاومة إلى قلب حركة التحرر الوطني العربية في امتداد تراث المقاومة الشعبية في لبنان وفلسطين والمنطقة، وهو ما نعتقد أنه سيترك آثاراً متنوعة على مجمل نظرة الحزب لقضايا لبنان والمنطقة. وهذا المسار هو مسار موضوعي لم يعد ممكناً الإخلال به من دون المغامرة بكامل البنية وإنجازاتها، على الصعيدين الوطني والمحلي في لبنان، ومن دون تعريض «البيئة الحاضنة» لمخاطر، يكاد تفاديها يصبح شرط بقاء. وصية الشهيد مهدي ياغي محمّلة بكل هذا المغزى حيث يظهر أن المقاومين، هم غالباً، على تنوّع انتماءاتهم، أبناء الفقراء والكادحين الذين قرروا أنه، في ظروف بلادنا، لن تكون الحياة عزيزة تحت سيف الاحتلال والعدوان كما لن تكون كريمة ما لم تتحسن شروط عيشهم. لهجة مهدي، البعلبكية الصافية، طبعت الوصية ومضمونها الاجتماعي المغرق في محليته. والاجتماعي، في كلامه، يخاطب ضحايا الإفقار والظلم والتهميش من عرسال إلى الهرمل وما بعدها، كما تفعل أغاني فرقة «الطفّار»، لا أغاني فرقة «الولاية».
وإيران؟ لا يبدو لها أثر مباشر في وصية مهدي، رغم كامل الدعم الذي تقدمه للمقاومة الإسلامية التي استشهد تحت رايتها. تبدو إيران «برّانية» بالمعنى الذي يجعل دعمها جزءاً من مشروع جيواستراتيجي، يتمحور حول الصراع مع العدو الصهيوني، أكثر من كونه، كما لا يزال يردد ببغاوات 14 آذار المحليون والإقليميون، تصديراً لثقافة وقيم فارسية صفوية لم يظهر مهدي متأثراً بها. وهذا الأمر، اللافت، يستدعي التفكر في المعايير المعتمدة في سياسة إيران الإقليمية، حيث لا يرتبط دورها خارج حدودها، بوجود شيعة أو حزب «يأتمر»، كما تظنُّ نايلة معوّض، بالولي الفقيه.
ثمة ما هو جديد لدى حزب الله، والأرجح أنه قيد تفاعلات ونقاشات داخلية لن نعرف منها إلّا ما تجيزه الرقابة. وصية الشهيد مهدي ياغي هي، في هذا الإطار، تكثيف لرسائل مشفّرة لا يصعب حل الأساسي من رموزها، بالنسبة إلى الحرصاء على فهم حزب الله والمقاومة من جهة، وملاقاتهما من جهة أخرى. هذا ما يحتاج إلى القيام به، الكثير من اللبنانيين والعرب، وخصوصاً اليساريين الذين ينظرون إليها كمشروع تحرري متكامل، في لبنان والمشرق العربي.
* قيادي يساري ـــ لبنان