بعد تدقيق وتمحيص استغرق سنوات، وللمرة الثانية في تاريخها، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماس عشرات المواطنين (اليهود) المطالبين بتعريفهم كـ«إسرائيليين» بدلاً من «يهود» في السجلات الرسمية. القضاة يقولون إنهم يميّزون جيداً بين تعريف «القومي» الإثني القائم على النسب وسلالات الدم (ربما نسميه التقليدي، المعهود)، وبين ذلك «القومي» المعرّف بعلاقة جدلية مع «المدني» (قد يُعتبر، الحديث). رغم ذلك اختاروا ذلك الإثني معلنين، عملياً، أنه لا وجود لكائن حيّ اسمه «إسرائيلي» في هذا السياق. نحن نستمع في العادة إلى بنيامين نتنياهو متحدثاً عن ضرورة اعتراف العالم (وسكّان الفضاء، حين نعثر عليهم) بيهودية دولة إسرائيل. ويقول المرء: هذا ليس مصدره التعصّب فقط، ولا تاريخ نتنياهو الشخصي، الذي شهد تربية متشددة غارقة في تاريخ قديم، متخيّل بمعظمه، من منظور القراءة التاريخية ــ العلمية بدلاً من تلك الغيبية ــ الدينيّة. إنه ليس البيئة الايديولوجية فقط، والتي لا ترى في الفلسطيني ذا أيّ حق جماعي (ولا فردي أحياناً) في «أرض إسرائيل الغربية» (فهناك «الشرقية» ايضاً ــ الممتدة حتى الفرات ــ بنظر الجذريّين!). وهو ليس «مقايضة» في نطاق مفاوضات فقط لغرض التخلص من مطلب اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، ورفض مطلب الفلسطينيين «المواطنين» بالمساواة الكاملة مدنياً وقومياً. بل هناك مشكلة حقيقيّة، في صميم التعريف والوعي للمفاهيم الأساس في هذه الدولة.إنّ قرار قضاة المحكمة لا يجعل بالضرورة من كل ما نُسب إلى نتنياهو أعلاه ينطبق عليهم. فقد يكون بينهم قاضٍ رافض لفكرة «أرض إسرائيل الكبرى أو الكاملة» في التطبيق السياسي؛ وقاضية أخرى تقبل بمعادلة متقدّمة أكثر في ما يخصّ المساواة للعرب؛ وآخر علماني، وبالتالي، متحرر من غيبيات الدين. ومع ذلك، فإنهم جميعاً متشابهون وشركاء مع نتنياهو في مواجهة العقبة الكأداء الصميمية: ما معنى «يهودي» و«إسرائيلي» و«صهيوني» اليوم، في سياق تحديد تعريفات سياسية وقانونية وتنفيذيّة واجرائيّة في دولة؛ أيّ في منظومة أدائية وليس في كيان «روحاني غيبي»؟
بطبيعة الحال يمكن لكلّ سياسي متوسّط فما تحت (يعني غالبية سياسيّي إسرائيل اليوم!) أن «يَرْقع» ثلاثة خطابات متلفزة لتعريف كل من المفاهيم الثلاثة أعلاه. ولكن ليس بمقدور حتى قضاة إسرائيل اليوم العمل بوصيّة الفيلسوف رينيه ديكارت للتيقّن من «وجود» المفاهيم أو صحّتها المنهجية على الأقلّ: أن تكون واضحة ومتميّزة عن بعضها/ قابلة للتشخيص/ الفصل في ما بينها/ ذات حدود لتعريفها والتعرّف إليها. بالطبع، ورد ذلك في سياق محدّد، لكن يتم هنا توسيع استخدام الفكرة عملاً «بالحق في التأويل».
فمفهوم اليهودي يتحمّل اختلافاً في وجهات نظر اليهود أنفسهم، ولكن إلى درجة التناقضات غير القابلة للجَسر بالمرة، خصوصاً حين يقول لك أحد اليهود، مثلاً: أنا عربي! نعم أنا يهودي الدين لكني عربيّ الانتماء الحضاري والاجتماعي وحتى السياسي (يهودي تونسي مثلاً، يرى في تونسيته الأصل مثل شقيقه المسلم التونسي). فكيف سيتعايش معه، بفكرة الانتماء المشترك، مستوطن جاء من نيويورك إلى بؤرة الاستيطان في الخليل؟ الأمر مستحيل، لأن يهودية الثاني تختلط بمفهوم آخر هو «الصهيوني». فهذا المفهوم الأخير «يريح» المستوطن تماماً، لأن يهوديته الذائبة في الصهيونية تمكنه من تقطيع جميع الأطراف التي تحرج هويّته «المتكاملة». وهذا بالمناسبة ما تفعله كل أصولية «تحترم نفسها»: طبّق النص على الواقع، وكل ما زاد من الواقع ولم يتلاءم مع النص، إقطعه/ قصّه/ اقتله/ كفّره/ تخلص منه!
على النسق نفسه، سيدّعي كثيرون سهولة تعريف مفهوم «الإسرائيلي»، ولكن للوهلة الأولى فقط. فلا يوجد إسرائيلي بدون اليهودي، ولا رابط بين هذا وذاك بدون الصهيوني. لذلك، لا يمكن القبول بالاستخفاف المتمادي بعقولنا مثلما فعل قضاة المحكمة العليا حين قالوا بشكل ميكانيكي: هذا مدني وذاك قومي. نقطة، وعلى الدنيا السلام... لأن المسألة ليست التسميات فقط: «الإسرائيلية المشتقّة من إسرائيل» مقابل «اليهودية». إنها مفاهيم مشحونة ومحتقنة بالسياسات، حين تتحوّل إلى جزء من تعريف دولة. ولنقارن هذا بحالة المصري. سيقول: أنا مصري وطنياً ومدنياً، وأنا عربي قومياً. لا يوجد تناقض، الهويات تعيش معاً بانسجام. وتخيّلوا أن يقولها شخص مصري محدّد بالشكل التالي: أنا مصري، وطنياً ومدنياً، وأنا عربي قومياً، وأنا يهودي دينياً... إن العروبة كمفهوم هو أكثر حداثة واتساعاً وتسامحاً من كل ما اختلقه المشروع الصهيوني، فعلياً ومعنوياً معاً.
كنت أتسلى أحياناً بتلك «الخربطيطة» وأتساءل: البعض لدينا صمّ آذاننا بالحديث عن «أزمة هوية الفلسطينيين في إسرائيل»، لكنه لم يفكّر بـ«أزمة هوية الإسرائيليين في إسرائيل»، أو، لحظة واحدة، ربما يجب القول: «أزمة هوية اليهود في إسرائيل»؟ ما الصحيح؟ لا أعرف. قضاة المحكمة العليا أيضاً لم يتمكنوا من الإجابة، أو، ربما يجب القول: خافوا الدخول في محاولة الإجابة.
والسؤال: ما السبب؟ لماذا كل هذا؟
ربما إنها الصهيونية. هذا المشروع الذي تعتدّ به جميع مركبات حلبة الاجماع السياسي، والذي خلق انفصاماً عميقاً (ومصائب) لدى ملايين اليهود. فكان كل «انتقال إلى الحاضر» يستدعي قطيعة مع «الماضي القريب» (ألماني، روسي، مغربي، يمني...) وإقامة علاقة مطلقة مع «الماضي السحيق» المؤلّف من قصص وأساطير دينية وغيبيّة ومتخيّلة تُروى عن قوم من الأقوام القديمة كما في الملاحم والنقوش على الحجارة؛ ثم جاء تأويل القصة وليّها لشرعنة وعقلنة المشروع (الصهيوني) نفسه ونتاجه (الإسرائيلي).
ربما يقول أحدهم: إنّ «الإسرائيلي» يستوعب في داخله اليهودي و«غير اليهودي»، ولهذا فهو مدني. ويمكنك أن تدخل أيها العربي المواطن على الرحب السّعة. ولكن ما إن يهمّ العربي بالقول: صحيح، معك حق... حتى أن ينتبه إلى أن الفضاء «الإسرائيلي» الذي يغويه بالدخول إليه، يبتلعه مفهوم «اليهودي» من حيث التعريف وبقرار من قضاة المحكمة العليا في تشرين الأول 2013، وبموافقة النخبة السياسية الحاكمة (كلها، ضمن لعبة تبادل الحكم... الائتلاف والمعارضة على حدّ السواء).
هنا، يجد العربي نفسه واقفاً على «بوابة القانون» لتنقلب سرديّة كافكا على رأسه رأساً على عقب، فهناك حارس «ليبرالي» يروي له كل ما من شأنه أن يسهّل دخوله، لكن صوت الحقيقة يتردّد ويعلو ليطغى على صوت الحارس: «لا يمكنك الدخول، لأن هذا المدخل كان مقرراً لكثيرين، إلا أنتَ، بالذات أنت»... - لماذا، قد يسأل العربي؟ وربما يجيبه صوت مجهول: لأن روايتك الفلسطينية تهدّد بتقويض كل البنيان!
* كاتب فلسطيني