يمكن تصنيف ما ورد في الحوار الطويل الذي أجراه صحافي عراقي قبل أيام مع النائب عن «التحالف الوطني» أحمد الجلبي إلى نوعين من الحيثيات: يشمل الأول معلومات مهمة بعضها يطرح علناً للمرة الأولى، وهي قليلة بغض النظر عن صدقيتها، رغم أنّ الجلبي، كما يقول العراقيون في مثلهم السائر «من عظام رقبة» الحكم، والمطلعين على أسراره وكواليسه. أما النوع الثاني فهو من قبيل المواقف والتفسيرات التي تحاول تزييف طبيعة الصراع بين المشروع الوطني الاستقلالي المهمش والمغمور حالياً، والآخر الطائفي التابع الذي يقود الحكم، وجعله خلافاً بين شقين داخل بيت الحكم: يمثل الأول المشروع الطائفي التقليدي يحتكر الهيمنة السلطوية لزاعمي تمثيل الطائفة الشيعية، أما الشق الثاني فهو الذي يدعو إلى توسيع دائرة المحاصصة، ولكن تحت عنوان فضفاض يدعوه «الشراكة السياسة» وهي عبارة لا تعني شيئاً على أرض الواقع إذْ إن حكومة المالكي قامت أساساً على ما سُمّي «الشراكة الوطنية السياسية».حول موضوع الانهيار الأمني والربط بينه وبين الأزمات السياسية بين الأطراف المتشاركة في الحكم، يعتقد الجلبي أنّ «الوضع الأمني هو الجزء الظاهر من مشكلتنا، إنّه الجزء الذي يشعر به الإنسان مباشرة لتلك المعضلة العميقة في نظامنا السياسي والاجتماعي. أما طريقة الدولة في التعامل معه فهي مجرد تكرار مؤسف ومكلف للأخطاء». الجلبي يقفز هنا على المقدمة الصحيحة التي انطلق منها سريعاً، فبدلاً من ربط الكارثة الأمنية بطبيعة نظام الحكم المحاصصاتي، وهيمنة الأحزاب الدينية الشيعية في مجتمع تعددي ومنقسم بعمق، أمرٌ يثير ردّ فعل من النوع الطائفي ذاته، يهرع إلى الجانب الفني من المعالجات الأمنية ويدور حوله. وما يفعله الجلبي هنا أمر طبيعي، إذْ أنَّ مدَّ اليد عميقاً إلى جذور المشكلة الأمنية، سيؤدي إلى ملامسة العفن السياسي لنظام المحاصصة الطائفية، وهذا ما لا يجرؤ عليه عرّاب هذا النظام ومطلق أهم دكان سياسي طائفي في العراق هو «البيت السياسي الشيعي» في السنوات الأولى للاحتلال الأجنبي.
لنوضح الأمر أكثر؛ الإضاءات التي يسلطها الجلبي على أوجه القصور الفنية كالجهل بمصدر الكميات الهائلة من المواد التفجيرية المستعملة هي إضاءات مهمة، ولكنَّ معالجتها لن تنهي ظاهرة العنف التكفيري الإجرامي واسع النطاق؛ فما الفائدة من اكتشاف مصدر من مصادر قدوم المواد المتفجرة إذا بقي النظام الطائفي وأحزابه المهيمنة موجوداً ويثير بحركته وقيادته للدولة والمجتمع ردود أفعال من ذات النوع؟ وحتى لو افترضنا عدم حدوث ردود أفعال عُنفية طائفية من الجهات المستهدفة بالتهميش والإقصاء، ألا يشكل سكوتها وتحوّل مناطقها إلى حاضنات مجتمعية للمنظمات الإجرامية المسلحة خطراً كبيراً ومستودعاً تحت الطلب لمدِّ هذه العصابات بالرجال والمال والتعاطف؟ ألم تكشف عمليات حزام بغداد ومناطق الأنبار والموصل وديالى عن عمق التغلغل والانغراس المجتمعي الذي أحرزته القاعدة ومثيلاتها هناك؟ نحن هنا نصف واقع الحال ولا نخوض في مشروعية ذلك من عدمها، ثم، هل ستكفي المعالجات الأمنية للقضاء على ظاهر العنف الهمجي؟ أم أنَّ الطرف المهمين على الحكومة يعول على الكثرة العددية للطرف المستهدَف غالباً «الشيعة» وكونهم غالبية سكانية، كما تقول إحصائيات الدولة ومفوضية الانتخابات، ومن غير الممكن أنْ تنجح القاعدة وحلفاؤها في هزيمتهم؟ ألم يفكر أحد في هذا النظام بمصير الطائفة الأخرى «العرب السنة» والتي ستدفع ثمن جرائم القاعدة من جهة، وإصرار النظام على تبني المحاصصة الطائفية من أخرى؟
إنّ استمرار أعمال القتل والإبادة للمدنيين ومن مكون واحد في غالبيتهم الساحقة، سيعمق الشرخ المجتمعي الطائفي كثيراً، ويجعل أي مصالحة حقيقية بعيدة المنال، وهذا يعني أن مكوّن العرب السنة سيُدفع نحو خيارين كارثيين فإما الهجرة أو الاندماج السلبي والأشبه بالتصفية العرقية والطائفية. أما خيار الانفصال أو إقامة الإقليم السني فهو البوابة العملية المشؤومة لهذين الخيارين الأسودين. صحيح أنّ مسؤولية القاعدة وحلفائها كبيرة عن هذا المصير، ولكن مسؤولية الحكومة والقوى المهيمنة عليها لا تقل ثقلاً، فهذا المصير الكارثي سيعني نهاية العراق التعددي والمتنوع اجتماعياً ودينياً وطائفيا وقومياً إلى الأبد وستولد في النهاية دويلة شيعية نفطية شوهاء تدور في الفلك الإيراني تتحكم بها زمر من الجهلة والفاسدين باسم الطائفة والمذهب.
يمر الجلبي مروراً عابراً وسريعاً على عدم استفادة الأجهزة الأمنية من طريقة التنصت على الاتصالات العامة بين الناس، وينتقد عدم وجود نتائج مفيدة من تحليلها، ولكنه، مع ذلك، ينكر معرفته بقيام الحكومة بعمليات تنصت على المواطنين نفياً عجيباً حين يرد على الصحافي الذي سأله «هل تعني أن كل مكالماتنا خاضعة للتنصت من الحكومة؟». فيرد الجلبي نافياً بطريقة الإثبات كمن يقول «لا، طبعاً، نعم!»، فيقول «لا أدري بالضبط، لكن هناك تقنية رصد متطورة، دونما نتيجة عملية».
يزايد النائب على أساليب الحكومة اللادستورية كالتنصت والتجسس على اتصالات المواطنين فيدعو إلى تعميم هذا الأسلوب باستخدام أحدث الأجهزة وعلى أوسع نطاق، والمثال الذي يروّج له هو أجهزة الاستخبارات والتنصت التي تنتجها شركات آسيوية أو أميركية ويبدو أنه مطلع شكل جيد عليها فيقول: «هناك شركات آسيوية تبيع هذه التقنيات التحليلية، فهل جرت الاستعانة بها؟ نحن كما يبدو نقوم بالتسجيل، لكن لا نتولى معالجة المعلومات، بينما أميركا وغيرها يضعون التجسس كأساس في مكافحة الإرهاب ولدى أميركا اليوم مركز سيفتتح قريباً في ولاية يوتا يمكنه خزن ٤ مليارات مكالمة يومياً». وسيعود الجلبي لموضوعه المحبب، تعميم التجسس، فيتحسر على ضياع شبكات الجواسيس التي بناها المحتلون الأميركيون في المناطق الغربية وعلى إهمال الخبرة التي جمعها الجنرال بترايوس في كتابه «مكافحة العصيان» ونال عليها رتبته العسكرية الرفيعة! ينتبه الصحافي إلى إصرار الجلبي على حصر الكلام في الجانب الفني للمشكلة الأمنية، فيوجه له سؤالاً مباشراً: «هذا حديث عن الجانب الفني من الموضوع، ماذا عن أخطائنا السياسية التي تقود الى كارثة؟». ولكن الجلبي يزوغ من هذا السؤال ويعود إلى نهجه، وها هو يحصي الخسائر الجانبية حيث المواطن «البغدادي، وبسبب نظام السيطرات، يخسر كل يوم أربع ساعات تقريباً من حياته في التنقلات الروتينية من وإلى محل عمله».
وفي أقسى نقد يوجهه لزملائه الذين يقودون العملية السياسية، وتحديداً للمالكي، يقول الجلبي «إنّ من يتخذ هذه الاجراءات الخائبة منفصل عن الواقع، وليس لديه أي إحساس بالناس، وهذه أمور تثير النقمة ولا تصنع الأمن»، معترفاً في لحظة صفاء أو زلة لسان بواحد من أسباب الفشل الأمني فيقول «لقد اعتمدنا عنصر الولاء وفضلناه على الخبرة، وصار فشل الموالي أكبر من خطر الكفء الذي ليس لديه ولاء للنظام السياسي». وبمقدار ما يستأهل الجلبي الإطراء على اعترافه هذا، غير أنَّ من الضروري إنعاش ذاكرة النسائين، فالمتحدث هو أحد زعماء المليشيات التي دُربت عناصرها في هنغاريا تحت إشراف المخابرات المركزية الأميركية، وشاركت في الاقتتال الطائفي البشع في سنوات الجثث، 2006 وما بعدها، وتم دمجها في القوات الأمنية أسوة بالمليشيا الأخرى الشيعية والسنية التي تم امتصاص كوادرها ومقاتليها من قبل أجهزة أمن حكم المحاصصة تحت عنوان الدمج.
يطرح الصحافي سؤالاً كبيراً آخر على الجلبي يقول «أنتم جميعاً اليوم معترضون في التحالف الوطني وخارجه، وتعجزون لأن المالكي هيمن على ملف الأمن ولا يسمع النصائح، وعجزتم حتى عن اقناع أميركا وإيران بالتدخل لتخفيف الخطر. كيف سينتهي هذا الامر؟». ومع احترامي لطريقة الصديق والزميل سرمد الطائي في صياغة وطرح أسئلته، ولكني أعتقد أنَّ تطويراً مهماً ينبغي إجراؤه ليكون السؤال منتجاً، يبحث عن سبب فشل خصوم المالكي المتحدين في «جبهة أربيل» في جمع أغلبية نيابية تطيح حكومته وليس في فشلهم إقناع إيران وأميركا بالتدخل. وإذا ما كان السؤال هو هذا، فهل نجد الإجابة عليه في سيطرة المالكي على الملفات الأمنية؟ لا نعتقد بصحة هذا الجواب، دع عنك أنه يعني أنّ جميع من عارضوا المالكي «خائفون» على رؤوسهم منه، ويعني أيضاً أنهم رضوا بديكتاتورية فتية قبل انتصارها فخانوا منتخبيهم. غير أنّ الجواب ليس هنا، كما أن السؤال ليس هذا. لنجرب حظنا ونسأل: إذا كنتم جميعاً تعترضون على سياسات المالكي وطريقة أدائه وتعرفون بأنه لا يصغي لنصائحكم وانتقاداتكم فلماذا لم تصوتوا ضده وتسقطوه في البرلمان؟
الجلبي لم يجب على سؤال الصحافي وزاغ كعادته إلى سؤال آخر لا علاقة له بالموضوع، وهو لن يجيب على سؤالنا المعدّل لذلك يقترح كاتب هذه السطور جواباً من عنده: رغم أنَّ الأغلبية الساحقة من ساسة وأحزاب العملية السياسية الطائفية تعترض على سياسات المالكي وتعاديه، سواء فشلت سياسياته، وما أكثر فشله، أو قدَّم أو حاول تقديم بعض الإنجازات المهمة لأن المعارضة للمالكي تعتبر تلك الإنجازات دعاية انتخابية لمصالحته ومصلحة كتلته (لنتذكر مشروع الخدمات وبناء مليون وحدة سكنية لمحدودي الدخل الذي اقترحته الحكومة وعطّله البرلمان كمثال)، ورغم أنه ــ المالكي ــ تمادى كثيراً في التفرد والهيمنة على الملفات المهمة كما يزعم خصومه، ولكن هؤلاء المعارضين والمعادين للمالكي لا يجرؤون على إطاحته وإسقاط حكومته لأنهم جزء عضوي من اللعبة السياسية وبسقوطه تسقط اللعبة كلها. يمكننا أنّ نضع اليد على السبب فهو في طبيعة التصميم الأميركي لنظام الحكم العراقي الحالي والذي هو على هيئة المتاهة التي لا يمكن لمن يدخلها أن يخرج منها إلا بتدميرها، وتدميرها يفقد جميع الأطراف المتشاركة في الحكم الطائفي العرقي حصصها من المغانم والامتيازات والمناصب ويعود بهم إلى نقطة الصفر، حيث الأمور ليست مضمونة الاستمرار على منوال المحاصصة الطائفية والعرقية.
لنتذكر هذه الواقعة: حين تصاعدت لهجة «جماعة أربيل»، المؤلفة من «الكردستاني» و«العراقية» والتيار الصدري، وقالوا إنهم جمعوا أكثر 163 صوتاً كافياً لإسقاط المالكي. في نيسان/ أبريل من السنة الماضية، ذكَّرهم أحد مستشاريه بأن ممثليهم في رئاسة الجمهورية ومجلس النواب سيسقطون أيضاً، وسيعاد النظر بوجودهم! هنا، تحرك الوسطاء السريون ومورست الضغوط الإيرانية والأميركية على اللاعبين حتى سقطت ورقة سحب الثقة وبشكل مهين وسقطت معها وإلى الأبد هيبة قائمة «العراقية» فتشرذمت الى قوائم وكتل، ومات سياسياً زعيمها علاوي إذْ لم يعد لوجوده مبرر سياسي أو قوة يمثلها بعد أن تفرقت القوى الأخرى. ولم يسلم من هذا المصير زعماء آخرون من «جماعة أربيل»، فالطالباني انتهى هو وحزبه إلى كارثة انتخابية أخيراً، وغربت شمسه السياسية نهائياً وقد تنشغل عائلته بإدارة ما جمعته من ثروات هائلة مستقبلاً، ومقتدى الصدر لا يزال يراوح بين الاعتزال والعودة عن الاعتزال، وكثُرٌ من المراقبين والمحللين، وحتى المتعاطفون منهم معه، يسجلون تراجع نفوذ وحضور تياره جماهيرياً. أما المالكي وكتلته فقد حلَّت بها كارثة انتخابية في الانتخابات المحلية الأخيرة لا تقل فداحة عن تلك التي حلت بحزب الطالباني، ولم ينجح مستشاروه برمي المسؤولية على كتف المسكينة «سانت ليغو» وهي الطريقة التي احتسبت بموجبها الأصوات ووزعت على الفائزين!
إنّ موت العملية السياسية الطائفية في العراق وتعفنها هو الذي أدى إلى هذه النتائج والمآلات للقوى والشخصيات السياسية المشاركة فيها ولا حلَّ هناك إلا بحلّها!
* كاتب عراقي