بعد أكثر من شهر على «ليلة الكيميائي»، التي شهدتها غوطة دمشق، في 21 آب/ أغسطس الماضي، يبدو أنّ «كيمياء» ما يجري في سوريا وتفاعلات مختلف عناصره الداخليّة والخارجيّة، باتت أمام معادلات جديدة قد أنضجتها تداعيات تلك الليلة. ليلة تكاد تجبُّ ما قبلها من محطات المقتلة السوريّة المتواصلة، لكنّ المؤكّد أنّها، وليالٍ كيميائيّة أخرى إضافية، ما كانت لتكون كذلك لو لم يتّخذها سيّد البيت الأبيض ذريعةً، ويهدّد جدّياً بتوجيه «ضربة» عسكريّة ضدّ نظام دمشق، فشرعت بوارجه فعليّاً باتّخاذ وضعيّات قتالية شرق المتوسط، واستنفرت إدارته ماكينتها الدبلوماسية والإعلامية لحشد موقف دولي وشعبي على مستوى الداخل لتأييد «الضربة» المزعومة.
وكحالهم تجاه غيرها من مفاصل أزمة بلادهم ومنعرجاتها الرئيسيّة، انقسم المعارضون السوريون ونشطاء الثورة بين مؤيّد للتحرّك الأميركي ورافض له. مثّلت «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي» الرأي الرافض للضربة في أوساط المعارضة، انسجاماً مع موقفها المبدئي منذ تأسيسها برفض التدخل الخارجي.
جدير بالذكر أنّ «هيئة التنسيق»، لم تكتف بالشعارات للتعبير عن رفض الضربة الأميركية، ففي مبادرة سياسية قدّمتها يوم 6 أيلول/ سبتمبر الجاري إلى وزارة الخارجية الروسية، تحت عنوان «خطوات لقطع الطريق أمام التدخل العسكري»، اقترحت خطوات عمليّة كخارطة طريق لإنهاء النزاع، وكان من ضمن بنودها «توافق دولي سوري على وضع السلاح الكيميائوي بإشراف مباشر من روسيا الاتحادية»، وهذا يتوافق مع ما جرى تداوله بالفعل، بعد ذلك التاريخ بأيام، في الأوساط الدبلوماسية المعنية بالشأن السوري، من تفاهمات لتسوية الملف الكيميائي السوري بإشراف دولي، والسعي لعقد مؤتمر «جنيف 2» للخروج بحل سياسي ينهي الأزمة.
في المقابل هلّل «ائتلاف قوى المعارضة والثورة» و«المجلس الوطني» للعمل العسكري. هؤلاء أيضاً منسجمون مع مواقفهم المبدئيّة، إذ لم يكفّوا يوماً عن استجداء التدخّل العسكري الغربي، وسارعوا هذه المرة كذلك إلى وضع بيضهم كلّه في سلة أوهام إسقاط النظام بالقوة، دون أن يقدّموا حتى اليوم أيّ برنامج محدد النقاط حول رؤيتهم السياسيّة، وخطط عملهم حيال أيّ من الملفّات المتكاثرة، التي أفرزتها الكارثة السوريّة المستمرّة، فضلاً عن ملفّات التفاوض مع النظام أو داعميه، وهو أمرٌ قادم لا محالة. في المحصلة جاء حساب البيدر الروسي الأميركي ليحبط آمال المراهنين على صواريخ كروز وتوماهوك. فبعد التباكي الأميركي على ضحايا الهجوم الكيميائي، وخصوصاً الأطفال منهم، والإصرار على «معاقبة» النظام، لم يكد ذلك النظام عينه (المطلوب معاقبته!) يُطيّب خاطر الأميركي الغاضب، حين أعلن قبوله مبادرة الحليف الروسي، القاضية بوضع مخزون سوريا من الأسلحة الكيميائية تحت الإشراف الدولي، حتّى ترجّل «الكاوبوي» عن صهوة حربه، وعاد للحديث عن الحل السياسي، والذهاب إلى «جنيف 2»، والترحيب بمبادرة الروس في شأن الكيميائي السوري وتجاوب دمشق معها. ولم تخنه مهارة الحفاظ على ماء الوجه، فعبر عن عدم ثقته بجدّية النوايا السورية، فأبقى خيار «الضربة» قائماً... إنّما لضمان التزام النظام بتعهداته الكيميائية لا أكثر!
في مستوى آخر، فإنّ الاتفاق الأميركي ــ الروسي جاء على حساب «التوازن الاستراتيجي» المزعوم، الذي يفترض أنّ يحققه الكيميائي السوري لردع أي مغامرة عسكرية ضدّ دمشق، تقوم بها إسرائيل المتفوقة عسكرياً، والممتلكة السلاح النووي، والرابح الأكبر من نزع أي سلاح سوري.
وإنّه على مذبح تجنّب الغضب الأميركي وتفادي «ضربته» التي قد تزعزع أركان الحكم، لم يجد النظام حرجاً في الموافقة على تسليم سلاح كان يزعم أنّ غايته الحفاظ على «التوازن الاستراتيجي» أو «توازن الرعب» في مواجهة إسرائيل، في سياق أيديلوجية «الممانعة والمقاومة»، التي لطالما ابتزّ بها الداخل قبل الخارج، فهل يندرج في إطار مشروعه «الممانع والمقاوم» التخلّي عن سلاح استراتيجي وكسر التوازن لمصلحة إسرائيل العدو الرئيسي؟
لا يبدو أنّ جوقة التطبيل والتزمير المدافعة عن النظام معنية بالإجابة، همّها فقط تبرير أفعاله، التي يصفها دوماً بأنها «انتصارات». ولمَ العجب، فهو كأي نظام مستبد لا شرعية انتخابية له، وليس معنيٍّاً بتبرير سياساته لجمهوره، لأنهم ليسوا ناخبيه. إنهم مجرّد محكومين عليهم التصفيق للحاكم على الفعل ونقيضه معاً، والأمثلة أكثر من أن تُحصى. مطلع سنة 2005، لوحق معارضون ومثقفون سوريون، واتّهموا بالخيانة والعمالة وسُجن البعض منهم، لمجرّد أنهم طالبوا بانسحاب الجيش السوري من لبنان.
وحين أعلن الرئيس، في نفس الفترة، قراره سحب الجيش من لبنان، قوبل بعاصفة من التصفيق في «مجلس الشعب»، وأطنب الإعلام الرسمي في الحديث عن الاستراتيجية والحكمة من وراء القرار!
بالعودة إلى «التسوية الكيميائية»، فإنّها، كشفت مزيداً من الكذب والنفاق السياسي والانحطاط الأخلاقي لمختلف «اللاعبين» الأساسيين. فإلى جانب الادّعاءات والشعارات الزائفة عن الحرص على الشعب السوري، تغطيةً لصراع النفوذ والمصالح وشهوة السلطة، لا يكفّ الجميع عن الخلط المتعمّد للأوراق، في لعبة يريدها هذا كسباً للوقت، وذاك تحصيلاً لمكاسب أكبر، وغيرهما لضمان مصالحه ودوره.
وفي مناخ الألعاب السياسية القذرة، واستمرار نزف الدم السوري، وحدها كيمياء الكراهية والأحقاد المتبادلة تتفاعل أكثر من أي وقت مضى، ليفعل تدميرها الشامل فعله بين مكوّنات شعب، لن يُمحى عار مأساته ومشاهد احتضار أطفاله عن جبين التاريخ.
* كاتب سوري