ألزمت بعض الدول النامية نفسها بما لا يلزم. وتوهّمت أن امتلاكها أسلحة الدمار الشامل سيجعلها دولاً ذات شأن، فسعت بكل ما تملك لتحقيق ذلك. تُدخل هذه الأسلحة الدولة التي تمتلكها نادي «الكبار» وتعطيها قوة بين الدول الأخرى، وقد تخيف الجار القريب وربما البعيد. لكن أي شأن هذا وما قيمته العملية لدى مواطني هذه الدولة؟ هذا هو السؤال الأهم، وفيه تكمن القوة الحقيقية لهذا السلاح أو غيره. حتى الآن لم أستطع أن أجد إيجابية واحدة لامتلاك الهند والباكستان القنبلة النووية، سوى أنها تمثل عاملاً رادعاً لعدم اعتداء إحداهما على الأخرى، لكن أليس التوصل إلى معاهدة «حسن جوار» أسهل وأقل كلفة؟ دولتان متجاورتان، فيهما من الفقر ما يجب أن يمثل رادعاً للتحارب، ودافعاً لبذل كل ما في وسعهما لتحسين العلاقة بينهما لتأمن كل دولة جانب الدولة الأخرى، والأفضل أن تسعى إلى بناء علاقات تعاون وثيق وخاصة في المجال الاقتصادي ليعم الخير الشعبين.أسلحة الدمار الشامل هي أسلحة ابتزاز أكثر منها أسلحة للاستعمال. استخدمت الولايات المتحدة القنبلة الذرية، مرة واحدة، وأُقفل الباب على استخدامها. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يعد هناك وزن لكل الترسانة المسلحة الروسية، واستأثرت الولايات المتحدة بقيادة العالم على هواها من غير أي رادع. وما أن أعادت روسيا ترتيب وضعها الداخلي حتى عادت إلى الساحة الدولية بقوة فاجأت كثيرين. والمفاجأة الأكبر كانت في الدور الذي أدته روسيا في الأزمة السورية: كانت ثابتة على موقفها ولم تتزحزح، والأهم أنها أدارت الأزمة بمهارة وثقة أكبر من الولايات المتحدة. نستنتج مما تقدّم أن العامل الحاسم هو بنيان الدولة الداخلي، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما القوة العسكرية، على الرغم من أهميتها في العلاقة مع الأشرار العدوانيين، سوى عامل مساعد. وخير مثال على ذلك اليابان وألمانيا، اللتان تحتلان مكانة مميزة في العالم، وهما لا تملكان أي نوع من أسلحة الدمار الشامل.
لا أدعو إلى السلمية المطلقة في عالم الذئاب، وطبعاً لا يمكن أن أدعو إلى السلمية الخانعة. إن جُلّ ما أطالب به هو عدم تعظيم شأن القوة العسكرية لتحل محل القوة المجتمعية، ويتحول عقلنا إلى غرفة عمليات عسكرية ليس إلا. ما زال للقوة العسكرية شأن في عالمنا، لكن السؤال إلى أيّ قوة تحتاج الدول النامية؟ وما يناسب الدول العظمى قد لا يناسب دولنا «الصغيرة»، وليس بالضرورة أن يكون الحل بأسلحة الدمار الشامل.
لنأخذ حرب تموز 2006 مثلاً: الكل يعلم أنه لا مجال للمقارنة بين القوتين العسكرتين لدى إسرائيل وحزب الله، لا من ناحية العدد ولا العدة. إلا أن التفوق الإسرائيلي الهائل في هذا المجال لم يمكّنها من التفوق على حزب الله والانتصار عليه في الحرب المذكورة. لقد تفوّق الحزب في جاهزيته واستعداده وفي قوة الأفراد وحسن إدارته للمعركة. لقد أحسن الحزب الاستثمار في الإنسان فأعطاه قوة تفوقت على التكنولوجيا العالية والقوة العسكرية الأكبر في المنطقة.
في زمن الحرب الباردة، وعلى الرغم من أنها كانت تعي أن حرباً مباشرة بين الطرفين شبه مستحيلة لأنه ما من رابح فيها، ولأنّ الدمار سيصيب الجميع، حرصت الولايات المتحدة على سباق التسلح وتسريعه قدر الإمكان. فقد كانت تعلم أن عبء السباق سيكون أكبر على الدولة السوفياتية، التي ستُجبَر على رصد موازنات ضخمة لتطوير أسلحتها على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما سينعكس سلباً على مستوى معيشة المواطنين ورفاههم. فخلافاً للنظام الرأسمالي، تقع على عاتق النظام الاشتراكي مسؤولية مباشرة في تنظيم وتمويل وإدارة وتنفيذ المشاريع المتعلقة بجميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
حسناً فعلت سوريا بموافقتها على الانضمام إلى اتفاقية الحدّ من أسلحة الدمار الشامل. الأفضل أن تخسر هذا السلاح (إذا كان في ذلك خسارة) من/ على أن تخسر الدولة. فالقطر السوري بخطر، والحكمة تقتضي وقف النزف فوراً. لقد وصلنا إلى المربع الأخير، حيث يجري تقرير مصير البلد إلى عشرات السنين. وإذا لم يستغل السوريون الفرصة الأخيرة لإنجاز اتفاق تاريخي يضمن الخروج من الأزمة والشروع في بناء سوريا الجديدة دولةً ديمقراطية عادلة، فلن يكون أمامهم إلا المصير الأفغاني أو الصومالي أو العراقي. وإذا كانت الأسلحة الكيميائية جزءاً من الثمن الذي سيدفعه النظام لتحقيق المصالحة، تكون سوريا قد ربحت مرتين، واحدة لأنها تخلّصت من عبء هذه الأسلحة: ضغط دولي، حرج الحلفاء واحتمال استخدامه من قبل النظام الجديد المنتظر، وثانية لأن هذا يساعد على توجيه اهتمام النظام نحو مصادر قوة بديلة أفضل وأنجع وتسهم في التنمية المستدامة للمجتمع وتصب في مصلحة المواطن الملموسة.
لم تمثل القوة العسكرية العظيمة للنظام السوفياتي ضمانة لبقائه ولم تحمِ الدولة من التفتُّت، كما أنه بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من الدمار الذي لحق بألمانيا واليابان، فقد نجحتا في احتلال موقع متقدّم ومتميّز بين الدول الصناعية، وهما الآن من اقوى الدول اقتصادياً، ولهما شأن كبير في السياسة الدولية. لقد تحقق ذلك من دون الصناعات العسكرية، التي كانت ممنوعة على الدولتين كنتيجة لهزيمتهما في الحرب. رب ضارة نافعة، إذ إنه بدل رصد ميزانيات ضخمة للصناعة العسكرية، التي غالباً ما تكون عبئاً اقتصادياً على الدول، تفرغت الدولتان للصناعات المدنية التي حققت نمواً سريعاً في البلاد، وحققت أرباحاً كبيرة أسهمت في ارتفاع مستوى معيشة ورفاه المواطنين، ورَفعَت من شأن البلدين عالمياً.
على الرغم من أن حقوق الدول يجب أن تكون متساوية في كل شيء، بما في ذلك امتلاك الأسلحة النوعية، إلا أنه لدواعٍ تكتيكية/ سياسية فإنه من الحذاقة بمكان أن تختار كل دولة ما يناسبها من سياسات وعناصر قوة بحسب قدراتها. ومن التهوّر اختيار طريق مسدود الافاق، ويسهم في زيادة معسكر الأعداء ويستعدي المحايدين ويحيّد الأصدقاء.
اقرب حلفاء سوريا، وهي إيران، لم تتوانَ عن التنديد باستخدام السلاح الكيميائي. أما روسيا، فهي مرتبطة باتفاقيات ومعاهدات دولية، وهي غير قادرة، ولا هي راغبة في خرقها، وخاصة في هذه الأيام، التي تسعى فيها إلى استعادة موقعها في المجتمع الدولي. ويمثل استخدام السلاح الكيميائي لدولة مثل سوريا انتحاراً في ظل وضعها تحت المجهر الدولي واستهدافها من قبل الغرب. هي مستهدفة بدون استخدام السلاح الكيميائي، فكيف سيكون الأمر في حال جرى استخدامه؟
السلاح الكيميائي لسوريا ولغيرها من الدول النامية لزوم ما لا يلزم. وإذا كانت لزوميات أبي العلاء المعري قد أضفت جمالية خاصة على موسيقى الإيقاع الشعري، فإنها في هذه الحالة تمنح شكلاً بلا مضمون، وتمثل نقطة ضعف يستغلها الأعداء. لقد حان الوقت ليتيقّن المسؤولون في هذه الدول، أن أهم سلاح استراتيجي في عالمنا هو الإنسان.
* كاتب وباحث فلسطيني