في سنة 2004 شكل الأردني أحمد الخلايله المعروف باسم «أبو مصعب الزرقاوي» كتيبة خاصة من المقاتلين الانتحاريين في تنظيمه المسلح السري الذي كان يقوده في العراق، والذي أطلق عليه اسم «التوحيد والجهاد»، وتغيّر لاحقاً إلى «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، والذي أمسى فرعاً لتنظيم القاعدة العالمي في العراق بعد أن بايع الزرقاويُّ ومجموعته ابن لادن وقيادته.
وقد أطلق الزرقاوي على كتيبته الانتحارية تلك اسم كتيبة «البراء بن مالك الاستشهادية»، محاولاً من خلال فعلته هذه انتزاع هذا الصحابي من رحابة التاريخ الحقيقي إلى ضيق وقتامة دهاليز الجماعات المسلحة الدينية ذات الفكر التكفيري الانتحاري. علماً أن السلفيين يرفضون وصفهم بالانتحاريين لأنهم يعرفون أنّ الانتحار حرام دينياً وأن المنتحر مأواه جهنم، ولذلك يسمون علمياتهم بالاستشهادية مع أنهم يتحفظون ويتحرزون في إطلاق كلمة «شهيد» على قتلاهم بالقول (ونحتسبهم عند الله شهداء وليس لنا على الله مِنّةٌ. ومن الملاحظ أنّ الكثيرين من الناطقين بالعربية يستعملون الفعل الخاص بالاستشهاد بطريقة غير صحيحة إذ يستعملون الفعل المبني للمعلوم «يَسْتَشْهِد»، وهذا غير صحيح فالذي يستشهد الشهداءَ هو الله، إنما ينبغي استعمال الفعل المبني للمجهول «يُسْتَشْهَد» وفي الماضي «استُشْهِدَ». علماً بأن كلمة «شهيد» تعتبر من المستحدثات لغةً ولم ترد في القرآن والسنة إطلاقاً إلا بمعان أخرى كالشاهد والحاضر وليس بمعنى من يقتل في حرب دينية أي «في سبيل الله».
فمن هو البراء بن مالك؟ ولماذا وقع اختيار الزرقاوي عليه دون سواه؟ وما المغازي والدلالات التي يمكن الخروج بها من هذه الممارسة وشبيهاتها؟ سنحاول في هذه المقالة، ضمن سلسلة من المقالات، التي تسعى لمقاربة هذه التجربة وهي لا تزال تمارس تأثيرها الكبير في ساحات الفعل السياسي والفكري والعسكري بغية تفكيك وتحليل ونقد جهازها المفاهيمي الخاص بهدف التفريق بين ما نعتقد أنه نوعان من السلفية: النوع الأول هو «السلفية الجهادية». وهذه استهدفت محتلي بلدانها من غزاة أجانب حصراً ونجد إرهاصاتها الأولى في الثورات المسلحة ضد الغزاة الاستعماريين الغربيين في بدايات القرن الماضي كالثورات التي قادها عمر المختار في ليبيا وعبد القادر الجزائري والمقراني وأبو عمامة في الجزائر وثورة العشرين في العراق، والتي لعب فيها فقهاء النجف دوراً ريادياً. هذا قديماً، أما حديثاً فنجد مثيلاً لهذه الحركات الجهادية في تجربة حزب الله في جنوب لبنان وحركة طالبان الأفغانية في أيامنا هذه مع التحفظ على بعض العمليات المسلحة التي قامت بها «طالبان» ضد المدنيين من أبناء شعبها. أما النوع الثاني، فهو ما يمكن أن نطلق عليه «السلفية الانتحارية» التي استهدفت وتستهدف أبناء شعبها لأسباب تتعلق بهويتهم المجتمعية الفرعية الطائفية أو الدينية أو المذهبية أو القومية أو لاتهامات بالخيانة السياسية والارتداد الديني حتى إنْ كانوا من الدين ذاته والمذهب نفسه. ومن الأمثلة البارزة على هذا النوع ما تقوم به فروع تنظيم القاعدة في العراق وسوريا والجزائر واليمن والعديد من دول آسيا وأفريقيا من عمليات انتحارية وتفجيرات مرعبة أسقطت عشرات، وربما مئات الآلاف من الأبرياء، أغلبهم من المسلمين بين قتيل وجريح. وسوف نتوقف عند هذه الأسئلة والعناوين بما تسمح به، وتحتاج إليه الخطوط العامة لبحثنا التحليلي هذا.
من هو البراء بن مالك؟ إنه أخو أنس بن مالك الخزرجي، الذي يصفه المؤرخون المسلمون قديماً وحديثاً بخادم النبي العربي الكريم محمد بن عبد الله، ولا علاقة له بمالك بن أنس صاحب المذهب الفقهي السني المعروف بالمذهب المالكي. برز البراء كمقاتل شجاع واستثنائي في المعارك الضارية التي نشبت بين جيوش المسلمين والمرتدين عن الإسلام، الرافضين لأداء الزكاة في الجزيرة العربية بعد وفاة النبي بزمن قصير، أما قبل ذلك فلم تأتِ المصادر التراثية الإسلامية على مساهمات البراء في غزوات ومعارك المسلمين.
كان للبراء دور حاسم في معركة «الحديقة» التي هزم فيها المسلمون المرتدين وقتلوا «نبيهم» مسيلمة بن حبيب الذي لقبوه بالكذاب. كان البراء مقاتلاً شجاعاً حتى حدود «التهور» كما يروي المؤرخون المسلمون أنفسهم، رغم أنه كان بسيطاً في هيئته ولبسه وكان النبي قد وصفه بأنه مستجاب الدعوة عند الله في حديث مشهور ينسب له ويقول: «ربَّ أشعثٍ، أغبر، ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره». ولكنه، إضافة إلى ما تقدم، كان يعاني من عارض مرضي خطير ينتابه بين الفينة والأخرى وهو أقرب إلى مرض الصرع الذي كانت العرب تسميه «العُرَواء»، وهي في الأصل برد الحمى، ويقال أخذته الحمى بنافض أي برعدة وبرد، وأعرى إذا حُمَّ العُرَواء. سننقل هنا حرفياً وصف الطبري صاحب التاريخ المعروف باسمه للعارض المرضي الذي كان يعتري البراء ونعلق عليه لاحقاً: «وكان ــ البراء ــ إذا حضر الحرب أخذته العُروَاء حتى يقعد عليه الرجالُ ثم ينتفضُ تحتهم حتى يبول في سراويله فإذا بال يثور كما يثور الأسد (تاريخ الطبري، ص 511 طبعة مؤسسة الأعلمي/ بيروت). من الواضح أن هذه الأعراض قريبة جداً من أعراض الصرع، وتحديداً من نوع يسميه الطب المعاصر نوبات التشنج الكبرى العامة (generalized grand mal seizures) والتي «تبدأ بفقدان مفاجئ للوعي، وتيبس الجسم، وقد يصبح المريض منتصباً مثل السيخ المعدني أو قد ينحني كالقوس إلى الخلف وتحدث بعد ذلك سلسلة من حركات الارتجاف في الذراعين والساقين والجذع، مع الصّرِّ على الأسنان. بعض الناس يعانون من التبول أو التبرز اللاإرادي. وعادة ما تستمر نوبة التشنج بالكامل ما لا يزيد عن دقيقتين» (الموسوعة الطبية التفاعلية، د. محمد الشهاب). وقد سجل المؤرخون ما حدث للبراء في موقعة «الحديقة» ضد جيش المرتدين في اليمامة، وكان جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد يعاني من مأزق عسكري بسبب صمود المدافعين عن مواقعهم وكثرة الخسائر البشرية بين المسلمين في موقعة «الحديقة». والحديقة أقرب ما تكون إلى واحة أو بستان كبير محاط بسور حجري استعصم فيه جيش المرتدين. وهنا انتابت البراء نوبة من هذا العارض وحين انتهت انتفض كالأسد وطلب من زملائه المقاتلين أن يضعوه في «جحفة» وهي ترس أو درقة ويرفعوها بالرماح ثم يسقطوها وهو فيها خلف سور الحديقة ليقاتل الأعداء ويفتح لهم الباب. وهكذا كان، ونجحت الخطة وانتصر المسلمون ولكن البراء كان قد أثخن بعشرات الجراح خلال محاولته فتح الباب والاشتباك مع المدافعين عنه، وظل خالد بن الوليد قائد جيش المسلمين آنذاك يسهر على تطبيبه ورعايته بنفسه حتى نجا من الموت وشفيت جراحه. هذه الحكاية هي التي تقوم عليها محاولة السلفيين الانتحاريين انتزاع الصحابي البراء بن مالك من نمط قتال لا يمت إلى الانتحار بصلة، فهو لم يقم سوى باقتحام بطولي لمواقع العدو، ثم إنه نجح فيه ونجا من الموت، ولم يفخخ نفسه بعدة أرطال من مادة الـ«سي فور» شديدة الانفجار ويفجر نفسه وهو عالمٌ وعلى يقينٍ أنه سيُقتل ويَقتل معه العشرات من المسلمين أو غير المسلمين العزل وبشكل عشوائي وأن احتمال نجاته صفر. أكثر من ذلك، يمكننا أن نروي النهاية التي انتهى إليها البراء بعد بضع سنوات، لننفي نهائيا أي صفة انتحارية عنه. لقد قُتل البراء حين اشتبك في مبارزة ثنائية في معركة «تستر» شمال الأهواز وهي من معارك فتح وتحرير العراق الطاحنة، وكان مبارزُهُ هو قائد جيش الفرس المجوس الهرمزان شخصياً، وقد تبادلا ضربتين، أخطأ البراء ضربته فلم يصب الهرمزان، وأصابه الأخير في مقتل. هكذا استُشهد البراء في معركة شريفة وقتال متعادل، فهل يمكن مقارنة هذا الصحابي بأي من هؤلاء السيكوباتيين الذين يتعرضون لعمليات غسيل دماغ مكثفة فيفخخون أنفسهم بالأحزمة الناسفة أو يقودون عربات مفخخة بكميات هائلة من المواد المتفجرة نحو الأحياء المدنية ودور العبادة والأسواق الشعبية فيحولونها إلى أشلاء بشرية مختلطة بالحطام المادي المتناثر؟
ومع ذلك فقد كانت شجاعة البراء التي تبلغ حدود التهور موضع تدقيق وتحفظ، بل ورفض من قبل اثنين من الخلفاء الراشدين. فأبو بكر الصديق منع أن يقود البراء بمفرده أية قوة من المسلمين، وأمر أنْ يكون في أحسن الأحوال مساعداً لقائدها، أما عمر بن الخطاب فقد منعه منعاً باتاً من قيادة أية قوة مقاتلة من المسلمين وهذا ما تعترف به أدبيات السلفيين الانتحاريين أنفسهم لنقرأ ما كتبه أحدهم: «كان البراء بطلاً مقداماً، فلم يتخلف يوماً عن غزوةٍ أو مشهد، وقد كان عمر بن الخطاب يوصي بألا يكون البراء قائداً أبداً، لأن تهوره المشهور قد يلقي بالجيش إلى الهلاك». وفي مصدر تراثي آخر، أكثر رصانة، هو «سير أعلام النبلاء» للذهبي نقرأ: «كتب عمر الخطاب إلى أمراء الجيش: لا تستعملوا البراء على جيش، فإنه مهلكة من المهالك يقدم بهم. ج 1، ص 196». والمقصود بعبارة «لا تستعملوا» أي لا تُنَصّبوا أو لا تُؤمّروا البراء ليقود أحد جيوش الفتح لأنه سيودي بهم إلى مهلكة أو كارثة.
ولنا الآن أن نتخيل كيف سيكون رأي الخليفتين الجليلين أو الصحابي البراء نفسه بقرار الزرقاوي تحويل البراء الذي مُنِعَ من قيادة المسلمين حين كان حياً وقتل في مبارزة شريفة ووجهاً لوجه مع عدوه إلى رمز وعلم واسم لجيش من الانتحاريين المزنرين بالأحزمة الناسفة ضد الأبرياء العزل بذريعة ما يسميه السلفيون الانتحاريون «قتال التتريس والانغماس»، وستكون لنا وقفة عند هذا العنوان قريباً. إن استعادة الصحابي البراء بن مالك من عقلية الانتحار الجماعي العشوائي والغدر والتفخيخ إلى رحابة التاريخ البطولي لهي مهمة السلفيين الجهاديين الحقيقيين الرافضين للانتحار ولقتل أبناء شعبهم مثلما هي مهمة جميع المؤمنين المسلمين قبل غيرهم خدمةً لدينهم وصيانة لسمعته وسمعة أعلام الإسلام الكبار الذين تحاول السلفية الانتحارية الإساءة لهم ولتاريخهم بأفعالها الهمجية والتي بلغت، مع نهش قلوب القتلى ونحر الأطفال بدم بارد، حداً لا بشرياً بل ومَرَضياً يصعب علاجه.
* كاتب عراقي