قيل الكثير عن إمكان توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا في لـحظة اشتباك رهيب بين مصالح دول من ضمن لعبة أمم قذرة، ولم يحصل ذلك... وقيل الكثير أيضاً عن قرب سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في الشام والعودة من مطار دمشق إلى بيروت، فتوقفت الـحياة السياسية والدستورية، ولم يحصل ذلك... وقيل أيضاً الكثير من التهويل والتطبيل للـحرب مع إسرائيل وكذلك الـحرب الواسعة في إقليم المشرق، وربما العالم بكامله، فتحدثوا مرات عديدة عن اقتراب الساعة الصفر أو لـحظة الـحقيقة، حيث يستسيغ البعض هذه التسمية، ولم يحصل ذلك حتى. فما الذي يمكن قوله راهناً بعد اتفاق جنيڤ بين روسيا وأميركا، وهو الذي أثار استغراب البعض واستياء البعض الآخر وكذلك سوء فهم البعض الثالث لدى قراءته ومحاولة تمحيصه وتأويله؟ وما الذي يمكننا ترقبه أو توقعه بعد اتفاق كهذا ومع انحسار احتمال الـحرب ورجـحان فرص التسوية بل التسويات؟ كذلك ما الذي يمكن قوله لدى محاولة تكييف تطورات الـحدث السوري ضمن إطار معطيات وتطورات المنطقة والعالم؟اندلعت المعركة في سوريا في سياق ما بات يُعرف بثورات الربيع العربي التي أطاحت العديد من النظم العربية التقليدية، لكن هذه المعركة بالذات تفاقمت بطريقة مختلفة، واشتدت معها وطأة الصراع العنيف بين السلطة أو النظام من جهة، ومعسكر المعارضة أو القوى المناهضة للـحكم في هذا البلد من جهة أخرى، ومن خلفهما مجموعة أطراف إقليمية ودولية لها مصالـحها وحساباتها في ما يعني المسألة السورية. فاتخذت المواجهة منحى خاصاً ومغايراً لما يجري في بقية بلدان المنطقة العربية التي شهدت أحداثاً مماثلة، بل اكتسبت القضية السورية تدريجياً أهمية خاصة وقصوى ضمن نطاق إقليم الشرق الأوسط كما العالم بأسره. لم يعد بإمكان أحد أن يتجاهل هذه القضية المتفاقمة وانعكاساتها على مجمل المعطيات والمستجدات ذات الصلة بميزان القوة الدولية، وكذلك لم يعد من المقبول الصمت حيال ما يجري بسوريا من أحداث عنف وأعمال إرهاب تتداخل فيهما عناصر الصراع الداخلية مع الكثير من الـحسابات أو المطامع الـخارجية. لقد بات واضـحاً للعيان ضلوع العديد من الدول وأجهزة استخباراتها بمعاناة الشعب ومحاولة تصفية الدولة في سوريا، وكذلك بات واضـحاً تماماً مدى أهمية الـحدث السوري وما سوف يتمخض منه بالنسبة إلى مجمل آفاق الصراع الدائر داخل المجال الدولي. بهذا المعنى، تمثل الـحرب في سوريا، أو بمعنى أصـح الـحرب على سوريا، نقطة تحول في بنية النفوذ داخل هذه المنظومة العالمية سواء لناحية التغيير في سلوكيات العديد من القوى العالمية أو الكبرى أو العظمى، وكذلك الـخطاب السياسي لبعضها وأداء دبلوماسييها ومواقف قادتها، أو حتى لناحية التغيير في صلب عملية بناء النظام الدولي وكيفية عمل مؤسساته واستقرار معادلة القوة أو توازن القوة فيه بمعنى إعادة صياغة بنيانه وتنظيم فعالياته كما تحديد فاعليه الدوليين الرئيسيين.
بهذا المعنى، تبدو حالياً الولايات المتحدة الأميركية في حالة تختلف كلياً أو كثيراً عما كانت عليه عشية الـحرب على العراق في العقد الماضي من هذا القرن، أو حتى قبيل اندلاع هذه الـحرب في سوريا بوقت قصير. قد لا يمكن أحداً أن ينكر أنها تمكنت من تحقيق بعض المكاسب، ومعها إسرائيل، لـجهة التدمير الكبير والمروّع في البنية التحتية للاقتصاد والدولة في سوريا، لكن الولايات المتحدة التي عمدت للتهديد والتهويل لم تتمكن من تنفيذ أو توجيه ضربة عسكرية لسوريا كما أعلنت، ومعها كذلك بقية الدول الغربية الـحليفة التي لم يفلح بعضها داخلياً في تأمين اتخاذ قرار سياسي بدعم خطوة كهذه أو المشاركة فيها. فاكتفت هذه الدول بالتعبير عن التأييد والمساندة المعنوية أو الكلامية لضرب سوريا وإدانة النظام فيها. هكذا تبدو أيضاً كل من فرنسا وبريطانيا وحتى ألمانيا وإيطاليا وبقية دول استعمار القرن الماضي بحالة من الركود والتراجع. فهي لم تفلـح بفرض إرادتها داخل منظمة الأمم المتحدة لضرب سوريا باسم الشرعية الدولية، كما أنها لم تتمكن من استخدام القوة العسكرية بطريقة مباشرة ومنفردة من خارج إطار المنظمة الدولية، ما يدل على انحسار نفوذ مجمل هذه الدول وعدم القدرة بعد اليوم على التعنت والتفرد بظل تبدل المناخات العالمية والتوازنات الكونية. وفق هذا التسلسل، يبدو فعلاً المشهد الدولي على أنقاض الدمار الهائل في سوريا مغايراً لما كان عليه قبل نشوب هذه الـحرب العالمية بالواسطة، وهي النموذج الـحديث أو المستحدث للـحرب العالمية الثالثة وللاستعمار الغربي المعاصر.
لم تستطع كل دول الغرب وعلى رأسها أميركا الدخول في حرب مباشرة مع روسيا وإيران وبقية أطراف المحور المناهض للسياسات الغربية في العالم، فاكتفت بتمويل وتسليح بعض الفرق والمجموعات من المعارضة المسلـحة السورية. كذلك، كانت روسيا وإيران، ومعهما بقية من الـحلفاء، تدركان أن احتمال نشوب حرب إقليمية ليس خياراً صائباً أو مضموناً، بل ربما تكون نتائجه كارثية، لكنه ربما يكون أيضاً أمراً واقعاً، ما يعني أن الـجميع لم يكن يريد الوصول للنقطة الصفر أو نهاية الطريق المسدود. لم يكن هناك من يريد فعلاً المضي في خيار الـحرب هذا سوى إسرائيل التي كانت دائماً، ولا تزال، تبغي القضاء على ما تبقى من المجتمع والكيان والدولة في سوريا. أما الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة الدوائر العليـا للقرار فيها، فقد كانت تعلم يقيناً أن النظام العالمي قد بدأ يتغير، وأنه لم يعد أبداً كما كان عقب انهيار المعسكر الشرقي مع نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، لكنها كانت في المقابل تشتهي واقعاً ضرب سوريا لتلبية الرغبة الصهيونية وحفظ ماء الوجه أمام انخفاض منسوب التوقعات وتهاوي الوعود المقطوعة. لقد استُخدم ملف السلاح الكيميائي كذريعة من قبل أميركا وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا للتصعيد والتهديد من ضمن محاولة هذه الدول الدخول على خط المواجهة في سوريا وتعديل موازين القوى في الميدان، وهي تستطيع في أية لـحظة اختلاق ذريعة أو حـجة ما، لكن ربما لم يعد بمقدورها استخدام هذه الورقة أصلاً أو الرهان على إمكان تمرير ضربة أو حرب من دون علم أو بغير موافقة الروس والصينيين وكذلك «الفرس». فقد كان حلفاء سوريا، أو النظام في سوريا تحديداً، يتوقعون إمكان حصول الـحرب، وكانوا يعلمون أيضاً بما تملكه سوريا من وسائل الذود عن النفس ودرء العدوان، وكانوا كذلك يستعدون لكل احتمال بل لكل الـخيارات المفتوحة. وكانت الدول الغربية على المقلب الثاني تخطط للعدوان وتُعدّ له وتعتزم القيام بذلك من دون تردد في أية فرصة سانحة، لكنها كانت تتريث، وخاصة الرئيس الأميركي باراك أوباما، في قراءة رد الفعل ومقاربة هذا الـخيار المجنون!
على أية حال، المسألة لم تنته هنا، فالـحرب في سوريا مستمرة، والصراع عليها طويل، لكن بات واضـحاً أن قواعد اللعبة وقوانينها قد تغيرتا كلياً منذ بدء انسـحاب الـحلفاء من العراق وأفغانستان. لذا، ربما تكون قد تغيرت أدوات هذا الصراع وطرائقه وتكتيكاته، لكن استراتيجية أو حتى عقلية العدوان لا تزال قائمة هي نفسها. فالمصالح هي نفسها، والدول هي نفسها، لكن العالم كله قد تغير! وبناءً عليه، بات لزاماً التغيير في طريقة التعامل أو التعاطي مع الملفات الدولية العالقة أو الساخنة على قاعدة العلم بتبدل الظروف، لكن الهدف واحد، وهو نفسه، بما يفترضه ذلك من دهاء وخبث في السياسة الدولية على الطريقة الماكياﭬيلية. حينذاك، تغدو الـحرب بالواسطة الوسيلة الممكنة والمتاحة، بل الفضلى، من أجل تحقيق أهداف معينة وتنفيذ سياسات مرسومة، كأن القوى العظمى أو الكبرى باتت أكثر رياء ونفاقاً في تغطية حالة الصدام أو المنافسة خشية وقوع المحظور وتفاقم الصراع لـحد المواجهة المباشرة. فقد كانت هذه القوى نفسها أكثر صدقاً في ما مضى، حين كانت تكشف علانية وصراحة عما تعتزم القيام به من احتلال هنا وإسقاط نظام هناك، واستعمار هنا واغتيال هناك، أو ربما تفجير أو تصفية أو تدمير بفعل الدخول العلني المباشر في المعركة والنزول للميدان. أما اليوم، فقد باتت التوازنات الدقيقة والتقنيات الـحديثة تفرضان لزاماً البحث في كيفية تغيير أساليب القتال والغزو، كما تغيرت أشكال استعمار ممالك وامبراطوريات العصور الماضية من الزمن، ذلك أن التقانة العسكرية المتقدمة جعلت المواجهة المباشرة رديفاً لما تعنيه أسلـحة الدمار الشامل بحد ذاتها، تماماً كما حصل حين فرضت حركات استقلال بلدان العالم الثالث والتحرر الوطني والقومي انتقال المستعمِر من استعمار العسكر المباشر إلى استعمار اقتصادي وسياسي وثقافي... هذا ما يمكن قراءته واستخلاصه من الـحرب الدائرة في سوريا، من طرائق القتال والمواجهة فيها، ومن أساليب التفاوض والدبلوماسية حولها.
لقد تمكنت الصهيونية العالمية من تدمير قلعة الممانعة في سوريا التي كانت تدعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة، وقد استطاعت قبل ذلك تطويع مجمل الدول الغربية في «القارة العـجوز» وفي «العالم الـجديد» وإرهاقها بمعظمها بالمديونيات المتراكمة بقصد إحكام السيطرة على دوائر القرار فيها. لم يبقَ أمام هذه اللوبيات والماسونيات سوى تطويق روسيا والصين وإخضاعهما. قد لا يعني ذلك بالضرورة ضرب النمو الاقتصادي في أي منهما أو تقويض اقتصادات بقية الدول الصاعدة، لكنه يفترض حقيقة التحكم في القرار السياسي داخل هذه البلدان، تماماً كما هو الـحال لدى أمم الغرب «المتحضرة»! والمسألة هنا ليست صعبة أو مستحيلة إذا ما علمنا حـجم التعامل والتداول بين إسرائيل والصين مالياً واقتصادياً واستثمارياً وإنتاجياً، وكذلك عدد اليهود في روسيا وعدد الـجالية اليهودية في إسرائيل من أصل روسي، وطبيعة العلاقة بين كارتلات النفط والسلاح وحيتان المال وغيرها من جماعات الضغط التي تحوكها وتهيمن عليها العناصر أو المجموعات الصهيونية، وكل من التنين الأصفر والدب الأبيض! عندها يمكن أن نفهم أن ما بعد الـحرب في سوريا هو المزيد من السعي والتخطيط لقيام وتحقق الهينمة الصهيونية على العالم واستقرار الوطن القومي لليهود في فلسطين المحتلة وفي كامل المشرق على أنقاض سوريا الكبرى أو سوريا الطبيعية أو سوريا الـحالية، وكذلك على حساب كافة المشاريع التوسعية، ولمصلـحة الطغمة الـحاكمة والمهينة في العالم كله، وبظل تعدد أقطاب الميزان وارتهان الـجميع مجدداً لمشروع أحادي وهيمنة أحادية!
من هنا، قد تكون روسيا ضامنة أمن إسرائيل، وهي بدأت تحظى مقابل ذلك بأوراق اعتمادها للمشرق من العراق للبنان مروراً بسوريا، ومن خلف روسيا تقف إيران التي أصبحت أيضاً فاعلاً إقليمياً رئيسياً وفاعلاً دولياً مهماً، لكن المعادلة تقتضي عند الـخوض في التفاصيل، في تفاصيل هذه الموازنات الـجديدة، التقيد بمراعاة المصالح الغربية، ولا سيما مصالح أميركا، في هذه المنطقة الـحيوية. مما تقدم، يمكن القول إن البحث في صيغة ما لمشاركة القوى الصاعدة قد بدأت واقعاً، سواء على مستوى النظام العالمي الـجديد أو حتى في ما يخص أية ترتيبات إقليمية جديدة. لقد أجهضت هذه الـحرب السورية ما تبقى من النظام الرسمي العربي أو حتى محاولة إحيائه أو ترميمه بركوب موجة هذه الهجمة الغربية والصهيونية على سوريا، وثبت أن ما بعد الـحرب على سوريا لن يكون البتة كما قبلها مع تكشف إرهاصات وملامح النظام العالمي الـجديد من خلال نمط أو نموذج إدارة هكذا أزمة دولية بالغة الـخطورة في المنطقة وعلى العالم كله. وبناءً عليه، ليس هناك بين اللاعبين الكبار من خاسر لكل شيء بالمطلق أو رابح لكل شيء بالكامل. كذلك، لم تنهزم أميركا تماماً، ومعها أمم القارة العـجوز، لكنها لم تربح إطلاقاً، وإن كانت قد أنجزت عملياً ما لا بأس به أبداً. هي جولة من لعبة أمم، لم تكن فيها من ضربة قاضية، لكنها أعادت رسم التوازنات والتحالفات في هذه المنطقة الـحساسة من العالم الذي دخل مرحلة ما بعد الحرب على سوريا، كما سبق أن دخل مرحلة ما بعد انهيار العملاق السوڤياتي وما بعد سقوط جدار برلين، وقبلاً مرحلة ما بعد الـحرب العالمية الثانية. فالمسألة السورية تمثل منعطفاً تاريخياً هاماً في العلاقات الدولية المعاصرة، لم يشهد لها العالم مثيلاً ربما منذ اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية في النصف الثاني من القرن الماضي.
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا