«كانت دمية الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بلباس العم سام تقف قبالة الدمية الأخرى، التي تمثّل البنك الدولي، والتي تحمل في يد سلّة مزيّنة بالدولارات، وفي اليد الثانية تغطي رأس نيكسون بالعلم الأميركي بالطريقة التي يقوم فيها عبد بتهوية سيّده. خلف الدميتين، تبرز خريطة الشرق الأوسط. يتقدم نيكسون بتلقائية وينزع الصنارة من دولة فيتنام ويبتلعها في فمه وهو يصيح: هراء، قمامة، لا نريد من هذا بعد اليوم. بعد ذلك، يقذفها من فمه نحو السلّة التي تحملها دمية البنك الدولي، ليكمل ما بدأ به مع الدول الأخرى، ولا سيما دول الشرق الأوسط، مثل فلسطين، الكويت، المملكة العربية السعودية، العراق، سوريا، وإيران، انتهاءً بباكستان وأفغانستان»i.هذا المشهد المسرحي الساخر كان يعرض في أحد مقاهي إندونيسيا في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وهو جاء للتعبير عن رفض الشعب الإندونيسي آنذاك للتدخل الأميركي في بلاده. في تلك الحقبة، كانت إندونيسيا الواقعة في جنوب آسيا تعدّ مدخلاً للولايات المتحدة الأميركية إلى العالم الإسلامي، ومنه إلى الشرق الأوسط، إذ إن التنمية الاقتصادية وشعار «نشر الديموقراطية في الدول النامية»، يمثّلان حتى يومنا هذا أحد أهم العناوين التي يتخذها الأميركيون ذريعة للدخول إلى الدول الفقيرة، والغنية بالموارد الطبيعية. بينما هي في الحقيقة ليست إلا جواز مرور من أجل السيطرة على كل مقومات هذه الدول، عبر مخطط واضح ومباشر تعتمده الإدارة الأميركية منذ عشرات السنين، وهو ما عبّر عنه جون بيركز في كتابه «اعترافات قاتل اقتصادي». يروي بيركنز، وهو كان أحد المشاركين في صياغة وتطبيق هذه السياسات، في كتابه بالتفاصيل «كيف تقنع الشركات الاستشارية العالمية التي تعمل لدى الإدارات الأميركية رؤساء الدول الفقيرة بقبول قروض مالية ضخمة لإقامة مشاريع اقتصادية، تحتكرها حصراً الشركات الأميركية، مقابل وعود للرؤساء بدعمهم سياسياً من أجل البقاء في الحكم». ويكمل بيركنز بالقول إنّه «بمجرد أن تغرق هذه الدول في الديون الهائلة التي لن تسطيع تسديدها على المدى القصير، تبدأ الحكومات الأميركية بالعمل على تحقيق أهدافها الحقيقية، التي تبتعد كل البعد عن مساعدة هذه الدول على التنمية، بل ترمي إلى السيطرة العسكرية من خلال برامج التعاون العسكري التي تختلقها، واحتكار المواد الطبيعية بحجة الاقتصاد، والتحكم في مواقع القرار السياسي».
إذاً، إندونيسيا التي تحتوي على النفط، وهو حاجة أميركا الدائمة، كانت إحدى الدول التي احتلها الأميركيون، القائمة بلادهم أساساً على الحروب الأهلية، وعلى سلب الأرض من السكان الأصليين، وهي كانت من الدول الأولى التي بدأوا بتحقيق سياستهم التوسعية عبرها، بغية فرض سيطرتهم على العالم فيما بعد. ولم تقتصر هذه السياسة على إندونيسيا وحسب، بل امتدت أيضاً إلى دول أخرى مثل باناما، وكولومبيا، والإكوادور. ومن المملكة العربية السعودية، أسّس الأميركيون لهيمنتهم على الشرق الأوسط عبر بوابة التعاون الاقتصادي، وخاصة بعدما أيقنت الإدارة الأميركية أهميّة المملكة لحماية مصالحها، بعد خطوة الملك فيصل بن عبد العزيز بقطع النفط عام 1973، بحسب بيركنز. وكانت أولى ثمار هذه «الشراكة» إنشاء «اللجنة الأميركية ــ السعودية الاقتصادية المشتركة»، ليمتد الوجود الأميركي لاحقاً إلى مختلف الدول العربية، اقتصادياً وعسكرياً.
عبر الاقتصاد، دخلت الولايات المتحدة الأميركية إلى أرضنا من الباب الواسع. أحكمت القبضة، وعبره، أيضاً، سيطرت على مراكز القرار والسياسات العربية مقابل صداقات ووعود نسجتها مع الحكام العرب. غير أن هذه الخطة، ما لبثت أن بدأت تتعثر مع ظهور الحركات والتيارات المناهضة لمشروعها في المنطقة، في دول مثل سوريا، والمقاومة في لبنان، وبعض الفصائل الفلسطينية، ما دفعها إلى البحث عن عناوين جديدة، فكانت الحرب علي الارهاب، وكان مشروع الشرق الأوسط الجديد. والخطير في هذا المشروع، الذي لا يرمي إلا إلى تفتيت المنطقة من أجل ضمان أمن إسرائيل والسيطرة على الثروات الاقتصادية، هو انغماس الحكام العرب في لعبة إثارة النعرات المذهبية في المنطقة، عبر تبنّي شعار «الهلال الشيعي»، الذي بدأ به الملك الأردني، وتبنته معظم الدول العربية. وترافق هذا الشعار مع نجاح الولايات المتحدة للأسف، بتصوير إيران أو «فزاعة الهلال الشيعي» على أنه العدوّ الحقيقي والوحيد للعرب، مما أفرز نتائج عدة أهمها: ارتهان عربي كامل للغرب وللأميركيين تحديداً بذريعة الاحتماء من الخطر الشيعي، وبالتالي سيطرة أميركية أكثر على الاقتصاد والقرار السياسي. في المقابل، تكفي جولة صغيرة على العالم العربي لتكشف بالأرقام والتوزيع الجغرافي أن نسبة الشيعة في العالم العربي تعدّ ضئيلة، ما يدحض المزاعم العربية، ويضعها في سياق الحملة السياسية الاجتماعية لتقليب الرأي العام العربي، أو ما يعرف بالشارع العربي.
أما الأخطر، فهو يتمثل في أن هذا المخطط الأميركي نجح إلى حدّ كبير في «ترويض» سلوك وأدبيات هذه الشعوب باسم الدين، مما أفرز تطرفاً مذهبياً وصل حدّ الحروب الأهلية، التي بدأت بأشكال متعددة في لبنان وهي لا تزال قائمة بطريقة أو بأخرى، مروراً بمصر، وتونس، وليبيا، وانتهاءً بسوريا اليوم، وهي دول ما يسمّى «الربيع العربي». ولعلّ السؤال الذي يطرح هنا، هو عن الأسباب أو العوامل التي جعلت قسماً كبيراً من الأفراد والمجموعات المتنوعة يتشرّب هذا الخطاب المذهبي والطائفي بدرجة كبيرة لا بل يطلبه، ما قلب كل المفاهيم وبدّل في الانتماءات بما يخالف الدين نفسه، والتاريخ، حتى سقطت صفة الهوية والإنسان والمواطنية في معظم الدّول.
في علم الاجتماع، يرى العلماء أن «الجمهور العربي الذي يواجه حالياً مشكلة الهوية في زمن العولمة، هو على الأقلّ جمهور مرشّح لتعدد الهويات: هوية قومية (وطنية\ جنسية)، هوية دينية (مذهبية\ طائفية)، ومشروع هوية عالمية (كوسموبوليتية، إنسانوية، أو إنسانية)، بالهجرة أو بالتبعية». وتترافق هذه الشرذمة في الهوية مع إشكالية الحكم في العالم العربي، التي يتداخل فيها الدين مع السياسة، لا بل يتماهى معها، إذ يعمد السياسيون والطبقات الحاكمة إلى تغليف مشاريعهم وصراعاتهم السياسية بالدين عبر الشارع، ما أدّى إلى إفراز «مجتمع متمذهب ومغلق». هذا الواقع، جرى استغلاله من قبل الدول التي تعمل على تفتيت المنطقة من أجل السيطرة عليها، ونعني هنا الولايات المتحدة الأميركية، فانعكست هذه السياسات على الشارع العربي، الذي بات يعيش اليوم في حالة انفصام مع عصره، وأعيد به 1400 سنة إلى الوراء ii.
لقد نجح الغرب في إكمال لعبة التقسيم والهيمنة التي بدأها منذ سبعينيات القرن الماضي عبر بوابة الاقتصاد، وصولاً إلى إفراغ شبه كامل لأي انتماء قومي وعربي لقسم كبير من الشعوب العربية.
وأبرز مثال على خطورة نتائج هذه السياسة، هو ما كشفت عنه أزمة الحرب على سوريا، وخصوصاً في ما يتعلّق بالضربة الأميركية، فبتنا نسمع قبولاً عربياً أو صمتاً أو أصواتاً كثيرة على المستويين الشعبي والرسمي تطالب بالعدوان الخارجي على سوريا، وهو أسوأ مراحل يمكن أن تصلها أي دولة أو أمة من الانحطاط والتشرذم وغياب الوعي وثقافة الانتماء إلى الهوية وإلى الأرض. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن اللوم لا يقع على الإدارة الأميركية فحسب، بل يتحمّل الحكام العرب، أو النهج السياسي العربي كلّ المسؤولية، إما في التسهيل عن عمد أو غير عمد، أو في الصمت السلبي أو في المساهمة في الوصول إلى هذا الواقع.
في الختام، بصرف النظر عمّا ستؤول إليه الأوضاع في سوريا في ما يخص العدوان الأميركي، أو في البلدان العربية الأخرى، إذ لا بدّ للمخططات التقسيمية أن تصل إلى نقطة النهاية، يبقى السؤال عن كيفية التعاطي مع هذا الانقسام والشرخ والانسلاخ العمودي بين مكونات المجتمعات العربية في المستقبل، وسبل لملمته فيما بعد، ولا سيما أن نتائجه أخطر بكثير من الحرب العسكرية.
* أستاذة جامعية
المراجع:
i Confessions Of An Economic Hitman, John Perkins
ii سوسيولوجيا الجمهور السياسيّ الدينيّ في الشرق الأوسط المعاصر، خليل أحمد خليل