الشيخ شفيق جرادي *هناك على عمق وامتداد بحريّ واسع استُجمعت، وعلى عجل، حاملات طائرات الموت وفرقاطاته، وتعالت في الآفاق تصريحات الويل والثبور وعظائم الأمور.
إنّها سوريا، هي المقصد... بما هي واسطة عقد الممانعة في المنطقة العربيّة.
وهناك، على الضفة الأخرى، علت النداءات على صوت أجراس الكنائس تنادي المؤمنين في كلّ بقاع الأرض ليتداعوا إلى لصلاة برجاء السلام.
هناك، وقف رجلٌ استثنائيّ لمرحلة استثنائيّة يقول: لا لحربٍ هدفها قتل الإنسان بغية الإتجار بالسلاح.
إنّه البابا فرانسيس، القادم من ذاكرة وقوف المسيح في الهيكل مؤنّباً أبناء الأفاعي من العشار وتجار كرامة الإنسان وقداسة الدين. والصلاة هنا أيضاً على نية سوريا... بما هي الأرض المحتضنة لأقدم الآثار المسيحيّة؛ قرية معلولا؛ وبما تحمل من حضور مسيحيّ أصيل في هذا الشرق.
لقد طالب نيافته العالم أن يصلّي ويصوم من أجل السلام ورفضاً لأيّ عدوان عسكريّ أميركيّ على سوريا.
وهي مطالبةٌ تحمل مفارقات وأسئلة نذكر منها:
أوّلًا: أنّ المفارقة اللافتة تكمن في المصدر الجغرافيّ للعدوان، ورفض العدوان... هو الغرب. الغرب الذي يجيِّش الجيوش، والغرب الذي ينادي في الوقت عينه بالصلاة والسلام... فأيّ غربٍ هو هذا؟
ثانياً: إنّ من المفارقات العجيبة أن تكون منطقتنا بالغالب الأعمّ فيها؛ في موقع المحرِّض على العدوان. لولا نفرٌ نذر نفسه أن يكون حراً من أبناء هذه الشعوب العربيّة، وبعض فصائل المقاومة، ودولة وحيدة هي إيران، دون أن أستثني دولاً قالت إنّها لن تشارك في العدوان ولن تفتح أراضيها وسماءها لاستقبال الغازي!
ثالثاً: إنّ اندفاعة العدوان في بلاد المصدر كانت حكوميّة بامتياز، والرافض لها من بلاد المصدر كان شعبيّاً بامتياز؛ وإن كان السبب عند غالب الرافضين هو خوفهم من تداعيات الحرب على بلدانهم هم، وأبنائهم هم... بينما المجيّشون عندنا إنّما لاحظوا رغبة الثأر واسترضاء حكومة القوّة الأولى في العالم، ولم يلتفتوا ولم يراعوا أوضاع الناس والشعوب وما يمكن أن يلفحها من نار الحرب إذا سُجِّرت. عندنا اللافت العجيب، دون أن يصل إلى حدّ المفارقة، أنّ الرغبة الحكوميّة في بلداننا العربيّة كانت عبريّة بامتياز، وكان الكاشف عن حالها بيانات عبريّة بامتياز.
رابعاً: رغم كلّ ما أوردت من مفارقات... إلّا أنّ اندفاعة العدوان توقّفت... وإن لم تتوقف بعد نيّة العدوان... فما السرّ في ذلك؟ هل السرّ يكمن في الصلاة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما بالنا وصوت فيروز لم ينقطع يوماً عن تراتيل «لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي...». ما بال تراتيلها القديمة لم توقف عدوان إسرائيل على مدينة المدائن بما تحتضن من المسجد الأقصى وكنيسة القيامة؟ أم أنّ سبب تراجع الاندفاعة يكمن في التسويات السياسيّة، والمخارج التي يحلو للكثير وصفها بالمُبدعة؟ رغم أن الإبداع العالميّ والتسويات الدوليّة لم تجنِ لنا إلّا الخذلان وتوسّع الاحتلال والعدوان؟
أم أنّ وراء الأكَمَة ما وراءها من مصالح وتحالفات وحضور قوىً ميدانيّة أعلنت أنّ الضربة تقابلها ضربة والبادي أظلم.
لا أريد الإجابة عن كلّ ذلك بلغة الأرقام، لكن أؤثر أن أجيب بلغة الإيمان والرجاء.
نعم، إنّها الصلاة...
الصلاة إذا خلت من توظيفٍ للدين في مصالح آنيّة ضد كرامة الإنسان، هي الرادعة. الصلاة إذا خرجت من قلب محبٍّ للحياة، هي القادرة على منع الموت. الصلاة إذا تجاوزت حدود المذاهب والطوائف وانطلقت برجاءات الإنسان نحو ربّ الرحمة، هي السبيل لرسم الطريق. الصلاة إذا نبعت من حكمة التدبير ويد القدرة المقاومة، هي البانية لمشروع حضارة السلام. الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتوفد الشهداء إلى مسرح مقارعة الباطل والظلم، هي التي تقلب عرش هياكل الفراعنة والأباطرة وولايات الجبروت. إنّها الصلاة. فهنيئاً لك صلاتك يا نيافة البابا. لكن بمحبّة دعني أقول: لن تكفي صلاةٌ في الكنائس والمساجد والبِيَع. نحن نحتاج إلى أن نجعل من كلّ أرض مكاناً للصلاة، ومن كلّ قرار ترنيمة صلاة، ومن كلّ زمن روح صلاة ومحبّة، ومن كلّ شعب مستضعف مصلّياً يتوضّأ الشرف، أو يتناول قداسة معنى الدم والجسد، فيصارع شيطان الشطآن إذا اصطفت مواخير موته.
نحن بكلمة مختصرة، بتنا نحتاج إلى إنسان محمّد والمسيح الذي يصلّي ليقاوم. ويقاوم من أجل صلاة الحبّ والسلام.
وقلبي يقول: إنّ الذي أخّر اندفاعة العدوان هي رغبة الصلاة وإرادة المقاومة عند أهلها. وهما القادران على منع أيّ نوايا عدوانيّة.
فسلامٌ لكم... وسلام عليكم. ولكم شهادة الحقّ من أجل الإنسان... لكم نعمة الرجاء.
* مدير معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة