تقع سوريا، الآن، بين الحقانيّة التي تعني تطابق السياسة مع الحق، والبَعْط الأميركي (البعط: الغلوّ في الجهل والأمر القبيح، وذبح الدابة وحركتها بعده) في الحق، بما هو تخبّط يزعم أنه يتمسك بالحق. من هذا الوضع المتضاد، تفتح الأزمة السورية عين العالم على المهول الحادث في هذا البلد، وتجبره على حبس أنفاسه، ترقباً لما سيؤول إليه، بعد التهديد الأميركي بشن ضربة عسكرية عليه. أولى العلامات، هي البعط الأميركي، في هذا الخضمّ الهائج، حيث تحاول هذه القوة العظمى أن توحي بأنها حامية شرعة الحق، وسلطة القانون، لحماية الناس في العالم، بمنع خرق ميثاق هيئة الأمم المتحدة، وخصوصاً استخدام السلاح الكيميائي، كما في الحالة السورية.
سعت أميركا بشكل محموم إلى توفير الحلفاء من أوروبا والعالم، لشرعنة هذا السعار الذي تقوده، تحقيقاً لمشروعها المسكوت عنه في خطابها السياسي؛ وهو الهيمنة الأحادية على العالم.
أصدقاء سوريا، دولياً، إقليمياً وعربياً، في الحلف المقاوم للحلف الغربي أدركوا خطورة هذه الخطة الاستعمارية، فرفضوا، وهم الذين يشكلون قوة هائلة في العالم، هذه الحرب العدوانية، وهتكوا المستور في خطاب الهيمنة الغربية. لم يجدِ الصراخ الأميركي في ما يخص مزاعم الدفاع عن المبادئ والحقوق العامة للناس ومصائرهم؛ فهذه الكذبة كشفها التاريخ الأسود المعروف للإمبريالية الأميركية، من حربها على فييتنام إلى أفغانستان والعراق. الحكام الأميركان، عليهم أن يخرسوا، حين يتحدثون عن هذه القضايا، وإن كابروا وفعلوا، فلن يكونوا أكثر من دابة تبعط؛ تتخبّط في غير اتجاه بفعل آلام الذبح. هكذا فقد القادة الأميركان رشدهم، يحاولون، عبثاً، أن يسيّدوا أنفسهم قادة الحقانيّة، في الوقت الذي، خطابهم الثقافي الاستهلاكي الآتي من البراغماتية؛ من وليام جيمس حتى معلمهم الأخير جون راولز، لا يسمح لهم إلا بأن يكونوا مع حق القوة الرعناء الصّلِفة التي تبارك كل فعل أو وسيلة لتحقيق المصلحة. هذا هو الذي أسس للتخبط الأخير، بعد الإعلان عن العدوان الأميركي على سوريا، فالرئيس أوباما تارة يؤكد احترامه للقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة، وطوراً يقدم ديماغوجيته لتبرير العدوان من خارج مجلس الأمن والقانون الدولي، ليوجّه «ضربة عقابية للرئيس الأسد»، دفاعاً عن القانون، ولمنع استخدام الأسلحة الكيميائية! ولم يكن تخبط وزير خارجيته جون كيري بأقل شأناً من رئيسه، فهو مرة يقول بضرورة معاقبة النظام السوري، وبأن «خطر عدم خوض الحرب أكبر من خطر خوضها»، وفي أخرى يذهب إلى «أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للحرب في سوريا»، وهو «لا يستبعد اللجوء إلى مجلس الأمن»، لبحث الضربة.
أما سوريا وأصدقاؤها، فقد حافظوا منذ بداية الاحتجاجات على موقفهم الحقاني؛ فقد اعترف الرئيس بأن هناك مشاكل تحتاج إلى حلّ في بلاده، وهناك حقوق للشعب يجب أن «نعمل» على حلّها عن طريق الحوار مع المعارضة وبالتوافق معها. وبالفعل، أجرى هذا النظام الديكتاتوري تغييرات مهمة كانت مطالب مهمة بالنسبة إلى المعارضة، من التعددية السياسية ووضع قانون الأحزاب، إلى إلغاء المحاكم الاستثنائية، وكذلك إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي كانت تفرض أحادية حكم البعث ... إلخ. ولكن قادة المعارضة المصنّعة في الخارج منذ البداية، من «مجلس اسطنبول» إلى «ائتلاف الدوحة»، رفضوا الحوار مع النظام، وأطلقوا اسم «جمعة لا للحوار» منذ الأشهر الأولى (8/7/2011)، ورفعوا شعار إسقاط النظام منذ الأيام العشرة الأولى. نعرف عدم الثقة بهذا النظام، ونعرف استعداده للمراوغة، ولكن كان بإمكان المعارضة أن تضغط عليه وتجبره، على التشارك معها في إجراء التغييرات المطلوبة، لكانت تعالت على الجراح ووفرت كل هذا الدمار والقتل، ولكنها لم تفعل وذهبت في ركاب قادة المخطط الإمبريالي لتدمير سوريا.
المبادرة دليل: قبول سوريا بالمبادرة الروسية لوضع السلاح الكيميائي تحت إشراف الرقابة الدولية، ليصار إلى تدميره لاحقاً، يعني سحب صاعق الحرب والعدوان على الشعب السوري، ولو كان في ذلك شيء من الخضوع لمعادلة القوة وبالتالي الرضوخ، جزئياً، للإرادة الصهيو _ أميركية، وما ينطوي عليه من بعض المسّ للكرامة. وهذا يعني، من جهة أخرى، أن سوريا تقف إلى جانب الموقف الحقاني، لأن فيه تطابقاً إلى حدّ كبير بين التوجه السياسي للدولة والموقف الأخلاقي القاضي بضرورة حماية حياة الكثير من المواطنين السوريين، علماً بأن هذا الموقف التنازلي لم يُفقد الدولة السورية دورها الفعلي في مواجهة المشروع الإمبريالي وحلفائه الإقليميين والعرب الرجعيين، ولم يلغِ مسؤوليتها في الدفاع عن الوطن السوري وسيادته ووحدته، عبر مشروع المقاومة الذي تنخرط في تحقيقه وإنجازه.
من هنا، من الحقيقي أن يكون الموقف السوري في تضاد مع الموقف الأميركي الذي يقوم على القوة الغاشمة العمياء، في سبيل مصلحته ومن في صفه. من هنا، يمكن تفسير خرق أميركا للقانون الدولي مرات كثيرة؛ فهي قامت بتهديد سوريا بالضربة العسكرية، وهي أيضاً تحاول الذهاب إلى الحرب على سوريا من خارج مجلس الأمن. وهي دعمت، علناً، المعارضة المسلحة المتمردة على الدولة ذات السيادة، وهي التي صنّعت «مجلس اسطنبول»، وبعده ركّبت «ائتلاف الدوحة». وإن موقف مجلس التعاون الخليجي الداعي إلى ضرب سوريا، وكذلك موقف المعارضة الإسلامية التكفيرية في سوريا التي تهلل للعدوان الأميركي، جميعهم لا يفكرون إلا بمصالحهم، غير عابئين بما يدّعونه من تمسّك بالحق والعدل والقانون. ولعل أهم مؤشر على احتقار أميركا للحق الآن، هو عدم اكتراثها لرأي الشعب الأميركي الذي أعلن عن موقفه في استطلاعات الرأي، حيث 59 في المئة يرفضون الحرب على سوريا.
أما كان من الأجدى لأوباما وإدارته أن يتخذا من المبادرة المتعلقة بالأسلحة الكيميائية سبباً للتوقف مباشرة عن التهديد بشن العدوان على الشعب السوري، فيتفق بذلك مع دعوة أغلبية الشعوب الأوروبية والعربية، ومع دعوة بابا روما، أما كان وقف إلى جانب الحقّانيّة بدلاً من البعط الذي يقوم به عن الحق والقانون؟
* أكاديمي وناشط يساري ــ سوريا