1

إنها سيدة دون الخمسين. بدأت تقف على الرصيف المحاذي للجامعة قبل سنتين على ما أظن. في البداية كانت ملابسها لائقة وكانت تدخّن طوال النهار. لم تكن تتعرّض لأحد. كان المارّون قربها لا يرونها. استمر الأمر طوال ذلك الصيف. وجدتها في الموقع ذاته في الصيف الذي تلاه ومجدّداً هذا الصيف. غيّرت موقعها هذا العام إلى الشارع الذي يصعد باتجاه الحمراء. ربما لأن هناك شجرة ترد عنها بعض أذى الشمس. باتت ثيابها مهلهلة وتحمل بقجة كبيرة وأكياساً.

لم تعد قادرة على الوقوف. إنها قصة حقيقية والشارع هو بلس والجامعة هي الأميركية.
إنها قصة نزول إلى الجحيم لكائن بشري تحصل على مرأى من الناس ولا تجد من يتوقّف عندها. حتى الشتاء الماضي، كان هناك متشرّد آخر في الشارع، وقد أرداه صقيع الشتاء. أثار موته الفظيع لغطاً وردّ فعل. نعاه الطلاب ورسم أحدهم صورة له على الجدار وأموراً أخرى، لكن النقاش في هذا الأمر برمته بقي ناقصاً. ولعل السيدة هذه سيكون لها المآل ذاته في وقت قريب أو أبعد قليلاً.

2


فكّرت منذ العام الماضي في أن أكتب إلى زميل أصبح نائباً، لأسأله التوسّط في شأن استقبال هذه السيدة في دار عجزة أو مأوى مشرّدين، بموافقتها أو غصباً عنها. أعتقد على كل حال أن تواصلها مع الكائنات البشرية انقطع منذ بدأت تقف على ذلك الرصيف، ولم يعد أحد يسألها رأيها في أي شيء. تهيّبت لأن الزميل المذكور محافظ.
لكني ما زلت متقيناً من أن ثمة مسؤولية يتحمّلها الناس وتتحمّلها الدولة إزاء حالة من هذا النوع. والدولة لديها وزارة للشؤون الاجتماعية لها هذا الاختصاص بالذات. ليس الذهاب إلى الموت هو الأفظع، بل تجريد الإنسان من إنسانيته على هذه الصورة والتفرّج عليه، كأن الأمر أكثر من عادي.
أهو تراث الدولة اللبنانية كدولة «يد مرفوعة» الضارب في القِدم والممتد طيلة قرن ونصف قرن، الذي يحيل حالات اجتماعية كهذه أمراً غير جدير بأي تعليق؟ أم هي تجربة المجاعة التي حصدت نصف شعبنا خلال الحرب العالمية الأولى، حيث الناس ماتوا شتاءً وراء شتاء كل بمفرده من دون أن يتكوّن أي نوع من أنواع التضامن بينهم؟ هل هي المجاعة التي جعلت الناس يرون بديهياً أن يكونوا قساة القلوب؟ حين دخل الحلفاء، الذين تسبّبوا بالمجاعة بعدما أقفلوا البحر، عام 1918 إلى بيروت، كان يموت في شوارع المدينة 40 إلى 50 شخصاً كل يوم. من قال إنّ اقتصاد «اليد المرفوعة» هو شيء مشرّف، أو إن منظِّر الأمة، الذي يبخّرونه منذ ما قبل الاستقلال، يستحق الاحترام؟ كنت أتهيّب على الدوام منظر متشرّدي مترو الأنفاق الباريسي، ولا أرى في ذلك ما يشرّف «الديمقراطيات الغربية». أليس أندريه مالرو هو الذي أرّخ لبداية مسيرة الصين لاستعادة مكانتها بين الأمم، حين شاهد موظّفَينِ حكومييَّن بعد الثورة، وبعد دخول بكين عام 1949، وقد أتيا بحمالة ونقلا ميتاً من الشارع، في بلد كان قد دخل عصر الثورة الصناعية قبل مئتي عام كبلد مجاعات؟

3


هل يمكن عمل شيء بالنسبة إلى هذه السيدة؟ لاحظت مرّتين أن ثمة من كان يستوضحها وضعها من المارّة. هل تدفع إثارة الموضوع الشباب ذوي القلوب الخيّرة إلى عمل شيء ما لتوفير مأوى لهذه السيدة؟
* باحث لبناني