يطلق عليها اسم، أقطار أو كيانات، وغالباً ما يطلق عليها دول، ولربما كان اسم (جامعة الدول العربية) يكرس ذلك ثقافياً في ذهنية/ ذهنيات جمعية تستطيع أن تؤسس وتمارس عصبيات، يطلق عليها، عصبيات قطرية أو كيانية، إلخ. ومن ذلك وعلى ذلك يتأسس مصطلح ثقافة عربية! أو «أمة» عربية، لا بأس أن تكون أحياناً الأمة الإسلامية – حسب إعلانات أعتى القوميين العرب – ويمكنها أن تكون الأمة المصرية أو الكويتية، أو أمة أي كيان أو قطر أو «دولة».الإشكالية لا تأتي من المصطلح (وله نقاش آخر طويل)، لكنها تتخلق من سؤالها الأساسي المسكوت عنه. وهو من أين أتت هذه المخلوقات، الكيانات الأقطار الدول؟ على الرغم من تأميمها وانضوائها في فضاء أمة موحدة ومتماسكة شفوياً، على الرغم من انقسامها العمودي العميق، بدلالة الاستشراس في الدفاع عنها (الكيانات، الأقطار) ثقافياً وسياسياً وديبلوماسياً. وإن اقتضى الأمر فعسكرياً، ولنا في التاريخ القريب المثال الحق في الذود بالدم عن الكيان/ القطر، وحفظ حدوده، وعلمه ونشيده الوطني و«برلمانه». ولتبدو المسألة كاريكاتورية في مظهرها الخارجي، وكوميديا سوداء في بعدها الثقافي التأسيسي، فعلى الرغم من التعامل البديهي من قبل منتجي المنتجات الثقافية (قادة الرأي!) من كتاب ومفكرين وفنانين ومستحزبين مؤدلجين، وسياسيين، وعلى الرغم من انصياع مستهلكي هذه المنتجات للاعتقاد بما يأمرون، لتأمين مستلزمات وحدة الثقافة والأمة، وبغض النظر عن تذبذب مرجعياتها، يسارع الجميع منتجين ومستهلكين إلى إثبات العكس، على أرض الواقع وفي الممارسة، لدرجة أن المرء يرتبك معلومياً ومعرفياً عند محاولة الانضواء في فلك أو مجال قومي أو وطني، لأنّ عليه هضم، وتفتيت وتجاهل ذالك التعاكس البرادوكسي بين أجوبة عن سؤال من نحن، الذي تحول من سؤال وجودي أساسي إلى مجرد غمغمة معلومية، تؤلف فيها المؤلفات، وتكتب لها الأشعار والمسرحيات والمسلسلات، كما تمارس فيها الألاعيب السياسية والدبلوماسية، وتستنفر فيها القوى وتهدر، حتى على مجرد مباراة بكرة القدم، أو في اجتماع القمة في إطار جامعة الدول العربية.
من أين أتت هذه الكيانات الأقطار الأمم ثقافياً؟ وكذلك وفي نفس الوقت المقام من أين أتت الأمة الجامعة المانعة التي لا يأتيها الباطل من أي مكان؟ ما الذي يجعل أعتى عتاة القومية العربية (أو غيرها) من أشرس المدافعين عن الكيانية والقطرية؟
كيف يتسنى للشعوب أن تمارس ثقافة «مجتمعية» وهي تفتقد ذلك الوضوح العقلي، المؤسس لثقافة الوجود المجتمعي؟! ليأت من ينورنا شارحاً أرجوزة الدوائر الهوياتية، مؤكداً بتبسيطية جاهل أننا كل هؤلاء! وأن وجود الأمة هو وجود بديهي، دونما الحاجة إلى إرادة إنتاجها، مرجعاً كل هذا الكلام المفخم إلى صيغة مقدسة تقودنا إلى الخيانة والإثم في آن واحد، إذا لم نخضع، ونقبل تناقضاتها الفظيعة، مع وضوح وعلانية اختلاف المجالين جذرياً، وهو ما يقودنا إلى أمراض تفكيرية مستعصية، تنتج ثقافة غير قادرة على التوليد الثقافي، الذي يفضي إلى المجتمع والدولة بمعناهما التقني الذي يفضي إلى تشريف الإنسان الذي هو غاية الوجود الأرضي الدنيوي تحديداً وفقط.
من هنا ومن هذه الخلطة التفكيرية، قادرة وعلى نحو مشروع ومبرر، على إنتاج الاستبداد بجميع ألوانه وأنواعه وصفاته، كما أنها قادرة ودون أي جهد يذكر على إنتاج الهزائم والخيبات، وأيضاً، على صعيد متكاثر، كما وهذا الأهم قادرة «وديموقراطياً أكثروياً» على فرملة توليد المجتمع والدولة والإنتاج الإبداعي بكافة صنوفه واختصاصاته. وعلى هذه الخلطة أيضاً يجري تصنيف الناس في فسطاطين، الأول: وطنيون شرفاء وقادة، والثاني عاديون سابلة ودهماء وهم أقرب إلى الخيانة، يطلق عليهم جزافاً ووهماً اسم مواطنين.
الخوف من المقدس وعلى المقدس، هو من أتى بهذه الفهلوة التفكيرية وحقنها في أوردة الناس، لينتج متاريس ثقافية تخلط المشخص بالمجرد، والعقلي بالإيماني، والدنيوي بالماورائي، والاكتمال المعرفي المطمئن مع البحث القلق الخلاق، لينتج إحجاماً عن التفكير والجدل. ما دامت النتائج والخلاصات مضمنة بما قبل المقدمات، لذلك يبدو من الحق (وليس من الصواب أو الخطأ)، أن نكون أمماً وأقطاراً وطوائف وأعراقاً وقوميات وألواناً وأجناساً... إلخ في آن واحد، واستبداديين وديمقراطيين، وعادلين وظالمين، وأحراراً وعبيداً، ومبدعين وفاشلين، منتجين وتنابل، في آن واحد، في سيطرة تامة للخوف من وعلى المقدس، الذي يمكن التحكم في الترقيات إليه، من خلال تلاعب لغوي شفهي يمكن للمحترم أو المبجل أو للذي لا مكان له أن يتحول إلى مقدس يستحق الذود عنه بالأموال والدماء.
وهكذا أيها السادة يتحول السؤال الوجودي المعني بالإنتاج والإرادة، إلى مجرد جواب ما ورائي مقدس، في تسخيف حقيقي لمعنى الإنسان العاقل، عبر تحييد جهازه العقلي، وترويضه للتآلف (ليس إلا) مع التكنولوجيات المشخصة فقط، والمسخرة حكماً لتسهيل عيش (لا حياة) المخلوقات في رحلتها العرضية على وجه الأرض، لنصبح (النحن) كل شيء... ولا شيء أيضاً، لكننا مستمرون في إنتاجه... فهذا (ودائماً) ليس وقت التدقيق والمراجعات التي لا لزوم لها عندما نمتلك كافة الأجوبة عن كافة الأسئلة، وخصوصاً المستقبلية منها.
والآن كيف السبيل إلى معرفة الهدف من تفعيل إرادتنا؟ وفي أي اتجاه؟ ومن نحن؟ أعتقد وثقافتنا هذه (وهي أصل الأشياء على أية وكل حال) أننا تائهون في فضاء لا نعرف عنه إلا السيلان من الماضي إلى اللا مطرح. وعلينا الذود عنه بالأموال والدماء. فهكذا أمر سدنة الهياكل، وهذا الذي «طلع معهم» لتحرسهم الآلهة.
* سيناريست سوري