يتقاطع مفهوم العدمية بأبعاده المختلفة، وتنوع مستوياته، مع مفهوم الهويات القاتلة. وكلاهما يُعبِّر في سياق حركته الذاتية الداخلية، المتمحورة حول ذاتها وضمنها، عن انتماءات ذات بنية صمَّاء، وتركيبة عقائدية (أيديولوجية، طائفية، عرقية، إثنية، شوفينية، جهوية، مناطقية) مغلقة على ذاتها بفعل إصابتها بمتلازمة العمى العصبوي الذي يحمل الدمار والفناء لذاتها أولاً، ولهويات أخرى مختلفة ثانياً. ويتجذر مفهوم العدميات/ الهويات القاتلة ويتسع في سياق تحولاته المتناقضة مع قوانين التطور الاجتماعي للتاريخ الإنساني. وجميعها عوامل تساهم بتراجع الوعي الحامل لمشروع اجتماعي يعبِّر عن المجتمع ككل. وأكثر من ذلك فإن المخيال الذي يسيطر على أذهان وعقول وآليات تفكير تلك الجماعات، يتفتق بشكل دائم عن مشاريع تناقض الميول الموضوعية للمجتمع. ولا ينحصر مفهوم الهويات/ العدميات القاتلة على آليات تفكير واشتغال جماعات تحمل وعياً عصبوياً مغلقاً. لكن يتجاوزه إلى أكثرية دينية، عندما تتماهى في أنماط تفكيرها وآليات اشتغالها مع ذات الآليات التي تعتمدها المجموعات والفئات المذكورة. ويعود السبب في ذلك إلى «المظلومية» التي تزعم الأكثرية أنها تعاني منها في لحظة سياسية معيِّنة.
في السياق ذاته، فإن اصطلاح «العدمية القاتلة» يُعبِّر عن تركيبة الأطراف المتصارعة وبنيتها وآليات تفكيرها واشتغالها في سوريا تحديداً، وبلدان أخرى مختلفة. ويندرج في الإطار المذكور مجموعات إرهابية مثل داعش والنصرة، وأخرى جهادية ذات طابع إسلامي أصولي. وتربط تلك المجموعات باستثناء داعش، علاقات تعاون وتنسيق وتحالف مع مجموعات أخرى مقاتلة، تدَّعي أنها لا تعبِّر عن هويات دينية، طائفية، مذهبية. وجميعها من دون استثناء تربطه علاقات تتصف بالتبعية والارتهان، مع قوى دولية وإقليمية، تعمل على تحميلها أهدافاً وأبعاداً تتناقض مع مصالح السوريين السياسية والاجتماعية.
فشل النظام في
الحد من انهيار السوريين إلى ما
دون خط الفقر

في نقاش أوضاع الأطراف المتصارعة التي نزعم أنها تعاني من العدمية، نقف على التناقض البنيوي الذي تعاني منه المجموعات المتصارعة داخل سوريا. وجميعها تدِّعي الالتزام بالإسلام، والدفاع عنه. وبغضِّ النظر عن هويات تلك المجموعات المذهبية والطائفية، العرقية والإثنية، وتموضعاتها السياسية فإن الجرائم التي ترتكبها تدلل على براءة الإسلام منها. أما اعتمادهم في تبرير أعمالهم الإجرامية على بعض النصوص القرآنية فإنه يُخرج تلك النصوص عن سياقها التاريخي، ويشوهها ويسيء إليها... وأيضاً يمرِّغها في مستنقعات السياسة. وذلك يخدم قوى دولية تعمل على تحويل الإسلام والمسلمين إلى مصدر للإرهاب والرعب إضافة إلى مساهمتها في تحويل الصراع إلى مقتلة مذهبية وطائفية، تهدف إلى تعميق التمزق والتفكك الذي ما فتئت المجتمعات العربية تعاني منه. وأيضاً تعميق فشل الدول العربية المحكومة بأنظمة تناصب مجتمعاتها العداء. ولا فرق في هذا المستوى إن تحولت تلك المجموعات، أو تم تحويلها إلى أدوات وظيفية.
أما اشتغال المجموعات الجهادية على فرض مشروع «الدولة الإسلامية» المغلقة على ذاتها عقائدياً، فإنه يتناقض مع التطور العلمي والحضاري، والانفتاح الذي حققته المجتمعات البشرية. بالتالي فإن مشروعهم المزعوم يضع المجتمعات العربية في أحط مرحلة يمكن للمرء أن يتخيلها. إضافة إلى ذلك فإنهم يساهمون ومن يدعمهم من حكومات غربية، في تدمير المجتمعات العربية، وتشويه معالم الإسلام الحضارية والإنسانية. وهذا يدفعنا للتأكيد أن افتقاد تلك المجموعات إلى رؤية سياسية تؤسس لتنمية اجتماعية وبشرية واقتصادية متكاملة وشاملة، إضافة إلى استحالة تطبيق مشروعهم «الإسلامي»، نتيجة مخالفته قوانين التطور الاجتماعي والاقتصادي. يجعل منها أطرافاً عدمية قاتلة. ومن صراعهم صراعاً وظيفياً حاملاً للتخلف والدمار والفوضى. وينطبق ذلك على داعش وفصائل أخرى جهادية. وجميعها نتاج أولاً: بنية عقائدية مغلقة. وثانياً: آليات اشتغال أنظمة حكم سياسية أسست وساهمت على السواء في انتشار أيديولوجيات عقائدية شمولية أحادية استئثارية. وكلاهما يتقاطع مع عوامل تتعلق بأشكال اقتصادية وسياسية وثقافية، يتم الاشتغال على فرضها في سياق عولمة الفقر والهيمنة الغربية.
وفيما يخص الفصائل المقاتلة «المعتدلة» التي يدِّعي زعماؤها الدفاع عن الشعب السوري والثورة السورية فإن الطابع الإسلامي لمعظم تشكيلاتها، وعلاقات التنسيق والتحالف التي تربطها مع تنظيمات إسلامية جهادية بعضها مدرج على لوائح الإرهاب. يضعها من وجهة نظر الكثير من السوريين في إطار الجماعات الجهادية. وإذا ربطنا ذلك، مع عجز قيادات تلك الفصائل السياسية والعسكرية عن التوافق على مشروع سياسي مستقل عن التجاذبات والتناقضات الدولية والإقليمية فإنه يدلل على إمكانية تحويل صراعهم ضد النظام، إلى صراع عدمي يفتقد إلى أي مستقبل سياسي يُعبِّر عن السوريين. ويمكن أن يقودها ذلك إلى عدمية سياسية تنكشف تجلياتها الراهنة في الانفصال عن حركة الواقع والمجتمع.
لكن ذلك لا يلغي هشاشة رؤية النظام السياسية. ولا يقلل من إشكالية تعامله مع الأطراف السياسية الوطنية، ومع مقدمات الأزمة وتحولاتها. إن آليات اشتغال النظام وأدواته، إضافة إلى تمسُّكه بنهج سياسي إقصائي، وفشله في الحد من انهيار السوريين إلى دون خط الفقر، نتيجة سياسات اقتصادية ميكروية وماكروية يحكمها النهب والفساد وغياب الرؤية الاستراتيجية، يساهم في تفاقم أزمته البنيوية التي تنعكس تداعياتها على المجتمع السوري ويلات ومآسي.
* كاتب وباحث سوري