لعلّ السعودية كانت من أكثر البلدان العربية تأثراً بأجواء الصحوة الدينية التي اجتاحت المنطقة منذ نهاية السبعينيات. في أغلب البيوت (وخاصة في القرى) تجد أثراً للأفكار السلفية المتشددة التي انتشرت على نحو متسارع، وكانت لها السطوة منذ الثمانينيات حتى النصف الأول من التسعينيات. كانت البيئة آنذاك مهيئة لإنتاج الحالة الجهادية، فسيطرة «الصحويين» على مناشط الحياة كانت كاملة، والتديّن أو التظاهر به بات السائد الذي لا يشذ عنه إلا من «يحارب الإسلام وأهله». وأصبحت الوجاهة الاجتماعية ومكانة الفرد في محيطه تتعلقان أولاً وأخيراً بمظهره المتدين والمتميز بإعفاء اللحية وتقصير الثوب والتعصب أثناء أي حديث يتناول أمراً مخالفاً لما يعتقد.
باتت الحياة بالنسبة إلى كثيرين وجهاً آخر للموت، يؤدي إليه في رحلة يقودها العنف والتطرف بجميع ألوانه. ذلك التطرف الذي طغى على أفكارهم وتصوراتهم وعلى كل ما هو حولهم. وكان من الطبيعي أن تظهر الأفكار الجهادية المنحازة لكل ما هو متطرف في نبذ معاني الحياة أو أي متع تتصل بها تماشياً مع أجواء الحرب على أفغانستان آنذاك، ومع دعوات الجهاد التي كانت تتبناها آلة الإعلام الرسمية، وتشجع عليها دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة لتصفية حساباتها مع الخصم الشيوعي.
هذه الأجواء الدينية المتزمتة سهلت كثيراً تعبئة الشباب وتجنيدهم للقتال في أفغانستان في ظل تشجيع رسمي، وكانت الأداة المستخدمة في التعبئة آنذاك الأيديولوجيا الإسلامية المعادية للشيوعية والإلحاد. لاحقاً جرت التعبئة لقتال «الكفار» في الشيشان والبوسنة في التسعينيات، وقد كان التعاطف الشعبي واسعاً مع الحالات الجهادية المتنقلة تلك. يكفي أن نعلم أن أفكاراً دينية متزمتة كانت تبث في التعليم لتجعل جيلاً أو جيلين من المتعاطفين مع هذه الحروب، ولم يكن من الصعب إيجاد متطوعين سعوديين للذهاب إلى كل مكان، فالوعود بالحور العين وجنان الخلد وإقناع الشباب بالتضحية في سبيل الله لدحر الشيوعيين والملاحدة كانت أمراً يسيراً.
لكن بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وما تلاه من تفجيرات استهدفت أماكن حيوية في السعودية ومقارّ أمنية حصل تحول حقيقي في مسيرة الجهاديين داخل المملكة. فمن جهة باتت الدولة في حرب مباشرة معهم، وحليفاً للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب بعدما أصبحت مستهدفة بالتعبئة الجهادية هي وحلفاؤها الغربيين منذ النصف الثاني من التسعينيات، ومن جهة أخرى انخفض كثيراً حجم التعاطف الشعبي معهم، ويعود هذا إلى الاستهداف المباشر لمناطق داخل المملكة أشعرت الناس بالخوف منهم، وجعلتهم يتيقنون بأنهم خصوم. ويعود أيضاً إلى تراجع تأثير الصحوة الدينية مع ثورة الاتصالات، وما أنتجته من انفتاح على أفكار مختلفة، ومع فشل شيوخ الصحوة الدينية في إحداث تغيير سياسي بعد معارضتهم للدولة إثر استقدامها القوات الأميركية لتحرير الكويت عام 1991م.
ومع مرحلة الربيع العربي التي نشهدها لامست التفاعلات الناتجة عن الثورات العربية يوميات المواطن السعودي، الذي شهد كغيره من المتابعين كل التحولات التي جرت على مستوى دول الثورات، من خلال المتابعة المستمرة للأخبار، وتقصي ما يحدث في دول الجوار عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وشبكة الإنترنت. ولأن الثورات في بداياتها كانت تنادي بمطالب تتمحور حول الديمقراطية والحريات، لم تلقَ اهتماماً حقيقياً من كثير من الشيوخ السلفيين، بل إن بعضهم كان يرى حرمة خروج الشعوب على حكامها، لكن التحول حصل بفعل الأحداث في سوريا. فمع بداية انتفاضة الجماهير السورية بدأت الحماسة تدب في أجساد السلفيين، ورأوا أن معركة إسقاط «النظام النصيري» هي معركتهم.
ومع تسلسل الأحداث كانت التعبئة ضد النظام في سوريا تتصاعد، وهكذا عاد شعار الجهاد إلى الواجهة مجدداً، وبدأنا نشهد حالة «أفغنة» للمزاج العام في المملكة، وحديثاً عن أهمية نصرة إخواننا في الشام، وظهرت وجوه دينية بارزة في المجتمع السعودي تدعو إلى الجهاد في سوريا صراحةً، والفوز بالجنة، ونصرة إخواننا المذبوحين، ورفع الظلم عنهم، في تعبئة إسلاموية تعتمد اعتماداً كبيراً على الشحن العاطفي بمختلف العبارات التي تخاطب همم الشباب بترغيب حماسي بالجنة والنعيم والشهوات فيها ممثلةً بالحور العين. وهذه المرة دخلت التعبئة الجهادية مرحلة جديدة تتمثل في استخدام الأداة الطائفية للدعوة للجهاد، وكان للأوضاع والصور القادمة من المدن السورية، التي يجري تفسيرها سلفياً على أنها مجازر بحق «أهل السنة والجماعة» تقوم بها العصابات «العلوية والشيعية»، ولتدخل حزب الله في المعارك داخل سوريا، أثرها الكبير في إيجاد أرضية خصبة للتعبئة الطائفية وإقناع شبابٍ لم يكن بعضهم أصلاً ضمن حالة إسلامية، ومع استثمار عوامل مثل الجهل والحاجة الاقتصادية كان من السهل إقناع عدد من الشباب بالذهاب للجهاد هناك ضد الشيعة. ولأن الحالة الطائفية متجذرة فكرياً وثقافياً عبر التعليم والإعلام داخل البلاد - إضافة إلى تأثير الصور القادمة من سوريا - فقد كان سهلاً أيضاً تجنيد الشباب للقتال في سوريا.
وجد بعض الدعاة السلفيين في «العامل الشيعي» في سوريا ذريعة تبرر دعوات الجهاد، ومع زيادة الاستقطاب الطائفي في المنطقة، يبدو أن مرحلة التعبئة الجهادية الجديدة التي تستخدم الدعاية الطائفية تنذر بما هو أخطر من المرحلة الجهادية السابقة. فحجم الخطاب الطائفي الذي يبث الكراهية والحقد بين الشيعة والسنة في السعودية يبدو مخيفاً، فكيف بوجود تعبئة جهادية من هذا النوع. صحيح أن الجهاديين لم يستهدفوا حتى الآن الشيعة في السعودية، لكن حجم التحريض على تظاهرات العوامية مثلاً، وانتشار القتل الطائفي في العراق وسوريا يقدم إشارات تستدعي تحركاً عاجلاً لمواجهة هذا النوع من التعبئة والتحريض على العنف.
تحوّل العدو في التعبئة الجهادية من الشيوعيين والملاحدة إلى الأميركيين والغربيين ثم إلى الشيعة أخيراً. وفي كل الحالات كانت أجهزة استخبارات كبرى تستثمر هذه الحالة لتحقيق أهداف ومصالح أكبر من الرؤية الضيقة للشباب الجهادي المتلاعب به، وما يمكن ملاحظته في هذه المرحلة أن الاحتراب الأهلي هو سيد الموقف في سوريا والعراق، والمخيف في هذه التعبئة إن استمرت على هذه الوتيرة، أنها قد تقود إلى نقل هذا الاحتراب إلى الخليج والسعودية في ظل التوترات القائمة أصلاً، ووجود حراك في البحرين ومناطق الشيعة السعوديين، ولن يكون أحد من المكونات الاجتماعية (سنةً وشيعة) بمنأى عن التداعيات الخطيرة لهذا التحريض الطائفي على العنف.
* كاتبة سعودية