قضايا المشرق | عاش اللبنانيون ليروا مواطنيهم وهم يحاربون في سوريا في تدخل صريح يكاد يمحو من ذاكرتهم، بسبب آثاره وتداعياته ومعانيه، سنوات مديدة من التدخل السوري في شؤونهم، والمشاركة السورية في حروبهم الداخلية. وليس في الأمر أي خروج على معادلات القوة بين الدولتين؛ ذلك أن الدولة اللبنانية «تنأى بنفسها» عن الشأن السوري، وهي أضعف من أن تتدخل في شؤون الشقيقة الأكبر والأقوى. لكن اللبنانيين هم مَن يتدخل ويحارب في سوريا، دفاعاً عن النظام أو سعياً إلى إسقاطه، بل نكاد نقول إنها حرب كل اللبنانيين، بمن فيهم رئيس الجمهورية الذي قرّر، وحده وبصفته، تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة ضد دمشق، بعد أن ردّ الجيش السوري، متأخراً، على مجموعات مسلحة استباحت الحدود المشتركة لفترة طويلة، تقاتل وحداته في الداخل السوري، وليس بعيداً عن أنظار الرئيس! وبالمقارنة مع التدخلات الأخرى في سوريا، على رغم تنوعها وضخامتها، يتميز التدخل اللبناني في الشأن السوري، بحيوية خاصة وكم هائل من المشاعر ومستوى عال من التعبئة. ولا يتعلق الأمر، هنا، بالكفاءة أو الاستعداد أولاً بعمق الانقسام وحدة التموضع؛ فهذه كلها عوامل متوافرة لدى الآخرين أيضاً، وخصوصاً دول الجوار السوري، لكن اللبنانيين ينظرون إلى ما يجري في سوريا، في وعيهم أولاً، وعيهم باعتباره شأناً داخلياً لبنانياً بامتياز، ويتعاملون معه على هذا الأساس. وليس أدل على ذلك من أنه، في لبنان فقط، تعطل، بسبب الأزمة السورية، انتظام عمل الدولة ومؤسساتها الدستورية، حيث التمديد (اقرأ التهرّب) سيد الموقف، والفراغ هو اللاعب الأكبر. تأثير الزلزال السوري على كل من العراق والأردن لم يكن محدوداً ولا هامشياً، ولكنه لم يبلغ، بالتأكيد، المستوى الذي نراه في لبنان، حيث المجاهرة بضرورة تجميد الحياة السياسية بانتظار نتائج التطورات السورية. وهذا الاعتبار هو الذي يفسر، بالدرجة الأولى، كيف كان تجاوز الحدود ممكناً إلى هذا الحد؛ فالمسألة نفسية اجتماعية وتكوينية، قبل أن تكون سياسية وأمنية ولوجستية. هنا، تنكشف، على الملأ، الاتجاهات الفعلية للقوى التي طالما رفعت شعار السيادة (في وجه سورياً تحديداً) وتغنّت بإنجاز فتح سفارتين بين البلدين، ودعت إلى ترسيم الحدود بينهما؛ فهذه القوى كانت أول من بادر إلى التدخل في سوريا، وأول مَن تجاوز حدودها في تعبير مادي عن سيكولوجية لا تعترف، في العمق، بهذه الحدود المصطنعة فعلاً. وهو ما قاد إلى المطالبة بإغلاق السفارتين، رمزي السيادة المفترضين، في تصعيد دراماتيكي لواقع الفصام النفسي ـ السياسي الذي تعيشه هذه القوى التي هجرت سريعاً، عند أول اختلال في ميزان القوى لمصلحة الطرف اللبناني في العلاقة الثنائية، شعاراتها الزائفة. فانكشف المشهد عن «غلاة» السيادة و«حماة» الحدود، يسقطونها عندما يتعلق الأمر بتدخلهم في سوريا، ثم يمتشقونها عندما يسير حزب الله على خطاهم ويتجاوز الحدود نفسها، للمشاركة في الخندق المضاد إنما في الحرب نفسها. بالنسبة إلى القوى القومية والأممية والإسلامية، لا معنى لنهائية الحدود بين الدول. والتعامل، في المشرق العربي، مع نتائج سايكس ــ بيكو يبقى في نهاية المطاف تعاملاً واقعياً بعيداً عن طوبى الهويات الصغرى و«الحضارات» المختلفة. ولذلك لم يكن مستغرباً من حزب الله، اللبناني، ألاّ يتردد في إسقاط الحدود مع سوريا والدخول للمشاركة في القتال الدائر فيها، كذلك لن يكون مستغرباً دخول قوى أخرى، قومية ويسارية، في الحرب السورية، من دون الحاجة إلى تبرير أدوارها التي تراها ضرورية في ساحات الصراع، وبما تنسجم مع مبادئها ومصالحها.
وعندما يتعلق الأمر بسوريا، يجب ألا يلتبس الأمر على أحد؛ فهي الوطن الأصل، أقله بالنسبة إلى أبناء الأقضية الأربعة. وهو انتماء محفور في الوجدان وتحت الطبقات المتراكمة فوق سطح الوعي الجمعي. وهذه الحقيقة لا تزال حاضرة بقوة، وتزداد صلابة، بسبب فشل النظام اللبناني على مدى عقود الاستقلال في بناء دولة للبنانيين ينتمون إليها، جميعاً، كمواطنين، مما أبقاهم في حالة الانتماءات السابقة لقيام الدولة اللبنانية. وهذا الفشل هو، في واقعه الصراعي التاريخي، ليس سوى فشل البورجوازية الكولونيالية في الدمج الوطني لعناصرها الجغرافية والسكانية، بحيث لا يزال إلحاق «الأطراف» بمركز الإمارة اللبنانية، يبدو كمزحة. وبما أن اللبنانيين لم يتمكنوا من بناء دولتهم، رغم الفرصة التي منحها لهم التاريخ، كان ضرورياً أن يدفعوا الثمن بدءاً بالتلاشي الواقعي للدولة والحدود على السواء. وعلى الرغم من أن مشاركة حزب الله في الحرب السورية ـ على عكس التدخلات المضادة ـ نجمت عن طلب صريح من الحكومة السورية الشرعية، فإنّ سياق هذه المشاركة نفسه، يذكرنا بحقيقة أنّ الحدود بين البلدين هي، أصلاً، واهية، ويعيدنا إلى أيام «الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني» و«الحزب السوري القومي الاجتماعي» ـ وهو حزب واحد للمشرق كله ـ وهو ما يدفع إلى الواجهة بالسؤال عن غياب هذين الحزبين «اللبنانيين» عن الصراع «السوري»؛ فهل خضع الحزبان للتهويل الأيديولوجي اليميني إلى الحدّ الذي يجعلهما مقيدين حيال الحدود الاستعمارية، تاركين للتيارات الإسلامية بألوانها كافة حمل راية الوحدة وإسقاط الحدود؟
إن إسقاط اللبنانيين للحدود مع سوريا ليس حدثا عابراً، ولن يكون من دون تداعيات، وخصوصاً أن التجاوز ممكن بالاتجاهين، وهو ما يطرح ضرورة اكتشاف أو بلورة السياق المناسب لهذا الاتجاه.
وفيما قد يستسهل البعض التعامل مع كسر الحدود، باعتباره فعلاً «برّانياً» ـ يشبه الغزوة الوهابية على سوريا ـ فإننا نؤكد، هنا، طابعه الوطني الاجتماعي «الجوّاني»؛ فلا حل للاستعصاء اللبناني المزمن على صعيد الدولة والنظام والمجتمع، خارج السياق السوري.
* قيادي يساري ـ لبنان