قضايا المشرق | مع نهايات القرن التاسع عشر، بدايات النهضة والتنوير العربي، أي عندما كانت المنطقة المشرقية العربية بما فيها مصر، لا تزال تمثل نطاقاً جغرافياً ــ سياسياً وبشرياً واحداً تحت سلطة النظام العثماني، وكان لبنان متميزاً فيه بخصوصية محددة، تستبطن أو تعلن بصورة ما طابع الانعزال القومي، وذلك تحت تأثيرات الضغط الأوروبي وتفاهم المصالح الحاصل مع الأتراك على أرضية اعتبارات مذهبية رعائية وحمائية خاصة، في حينه وعلى الرغم من ذلك كانت مساهمة النخب اللبنانية في حقل الفكر القومي العربي والثقافة المتعلقة به متميزة
، أسبق زمنياً وأكثر أهمية حتى من مساهمة النخبة السورية، لكن عندما انتقلت القضية لاحقاًَ إلى حقل الفعل السياسي القومي، والعوامل والشروط التي تكوّن ما نسميه طاقة التأثير الجيو ــ سياسي، وعلاقات التفاعل والقوة والأولوية والاستقطاب فيها، فإن الأمر انتقل بصورة حاسمة إلى الساحة والحلقة السورية. وبدا ذلك واضحاً من المؤتمر القومي في باريس (1913) ثمّ عبر الدور الخاص، الأكثر صفاءً وجدية وطموحاً قومياً في ما سمي الثورة العربية الكبرى، والسعي الفعلي إلى عمل مركب في رفض السيطرة الغربية على حركة مواجهة الأتراك وطردهم. كذلك إيجاد سلطة سياسية موحدة على كامل جغرافيا سوريا الكبرى أو بلاد الشام، بدعم صادق وغير محدود للملك فيصل الأول.
ولم تفعل سايكس ــ بيكو على الرغم من خطورة أهدافها وتحققها فعلياً، إلا أن بلورت أكثر فأكثر علاقة التأثير والاستقطاب بشكل خاص بين سوريا ولبنان؛ إذ تحولت الساحة السورية بكلية عناصرها (دولة، وتركيبة شعبية وطبقية اجتماعية، وسلطة سياسية متغيرة، ونخب متنوعة، وجغرافيا سياسية) إلى مركز لطاقة التأثير الاستراتيجي في العمق وكذلك التكتيكي في لحظات ومواقف كثيرة على لبنان، وتحول لبنان في المقابل إلى ما يشبه المنفعل والمتلقي في تلك الشروط والتاريخ المتحقق فعلياً، ما هي أهم أسباب وملامح كل ذلك؟
1ــ على الرغم من سعي المراكز الاستعمارية الغربية إلى تحويل لبنان بخصوصيته إلى بنية وتركيبة، وعلاقات دستورية وقانونية، ومؤسسات دولة تسمح دائماً بتحقيق فكرة التدخل الغربي الحمائي في حال الإخلال بمعادلة التعايش المذهبي. إلا أن مجمل الشرط السوري قد غطى على ذلك، وتحولت سوريا إلى الساحة أو الحلقة المركزية في أهمية التعايش المذهبي، وبالتالي الدور الحمائي الفعلي، وليس لبنان، وليس الغرب.
2ــ إن البنية الاجتماعية والسياسية والحزبية والجغرافية السورية، ثم مجموع التناقضات والصراعات مع الكيان الصهيوني وحليفه الغربي، حولتها إلى حلقة وطاقة جيوسياسية الأكثر تأثيراً وقدرة على خلق تفاعلات على الأقل مشرقية عربية إن لم تكن أكثر اتساعاً قومياً. وفي هذا الإطار كان لبنان ساحة التأثير الأولى. تحقق ذلك في الممارسة السياسية السورية التدخلية مرات عديدة على يد سلطات سياسية عدة، لكن كلما كانت السلطة السياسية المتدخلة أكثر توجهاً قومياً عربياً، كان التدخل في لبنان أكثر وضوحاً وأهمية. وليس مستغرباً أبداً القول إنّ مجمل النخب السورية على مختلف توجهاتها كانت تأخذ في الاعتبار حسابات تأثيرات استراتيجية وخططاً خاصة تجاه لبنان، كانت تبدو الجغرافيا السياسية اللبنانية في وعيهم وعيونهم كأنها غير موجودة، أو موجودة خطأً، أو موجودة لحساباتهم التدخلية. كانت الفروقات في الوسائل، كما كانت في الطابع وحدوده، بين الفرض والقمع والتدخل السافر، وبين التدخل القائم على الشرط الموضوعي، وقبوله ديموقراطياً، على الأقل من قبل قسم مهم من المجتمع اللبناني في كل مرة.
3ــ ذلك الشرط وعلاقات التأثير الخطية من المركز السوري، وكذلك قبوله من قسم ما من المجتمع اللبناني، من قسم مثّل دائماً شيئاً مهماً فعالاً وكبيراً، كان تعبيراً موضوعياً وتاريخياً حتمياً أكثر مما كان فعلاً إرادياً سورياً قصدياً، مفتعلاً دون أساس، أو قبولاً لبنانياً تحت الضغط والقمع كان من الجهة السورية قائماً فعلياً على طول الخط، وكان في لبنان موجوداً فعلياً بقناعة فئات اجتماعية وشعبية، كما قوى سياسية فعالة.
4ــ بالتأكيد لم يحصل، وكان المجتمع اللبناني بكامله في موقف موحد تجاه السياسات الاستراتيجية السورية، أو الوسائل والتكتيكات المستخدمة لخدمتها. كذلك لم تكن السياسات السورية ثابتة تجاه قوى سياسية أو فئات اجتماعية وطوائف بعينها. كان ذلك التفاعل متحولاً، الطرف الرئيسي المقرر فيه هو المركز السوري باستراتيجيته وتكتيكاته. إن تلك المفارقة تثبت وتؤكد حقيقة العلاقة التي نحددها؛ إذ لو كان الأمر قاصراً وثابتاً عند طرف أو فئة بعينها، لكان يفترض قراءة وتصورات أخرى. في تلك العلاقة لم تكن هناك صداقات وعداوات ثابتة، كانت هناك علاقة استراتيجية استقطابية مركزية وخطية باتجاه واحد، على الرغم من حتمية التفاعل فيها. نتذكر الآن بشكل خاص التدخل العسكري السوري في لبنان مرات لمصلحة المقاومة الفلسطينية أو الحركة الوطنية اللبنانية، ومرات في مصلحة قوى سياسية مسيحية، بما فيها الانعزالية منها، أو قوى إسلام سياسي مختلفة، بما فيها المقاومة الإسلامية، أو أطراف سياسية مسيحية بعينها. ولم يكن ذلك قاصراً على سلطة سورية بعينها، سلطة البعث مثلاً، بل مارستها كل السلطات السورية بسويات وأشكال مختلفة.
5ــ لم يشكل التدخل والوجود العسكري السوري كإحدى أهم وسائل التأثير الاستراتيجي، وعلى مدى طويل في لبنان بحد ذاته، والأهداف التي جاء من أجلها. وتغيّر هذه الأهداف بحسب الشرط لم يشكل محصلة سلبية في المطلق على الرغم من التفاصيل الهائلة على صعيد القمع والفساد. وعلى الرغم من خطوط التوافق الدولي والإقليمي على ذلك الوجود بداية حزيران 1976، إلا أنه تحول إلى قوة وجود داعمة لأي مقاومة فعلية للكيان الصهيوني، وقوة ردع عسكري ولوجيستي في معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني.
6ــ في المقابل، لم تكن هناك حالة إجماع سورية على سياسات الأنظمة تجاه لبنان، كان المجتمع الشعبي والسياسي السوري في حالة خلاف دائمة على السياسات والقضايا التكتيكية، مع بقائه على وعي الضرورات الاستراتيجية في العلاقة الخطية والمركزية مع لبنان (ربما كان الحزب السوري القومي بمجموع خلافاته وانقساماته، هو الوحيد، بصورة ثابتة، مؤيداً وموافقاً على استراتيجية وتكتيكات النظام السوري القائم، على مدى طويل) وهذه الصورة بحد ذاتها تؤكد الأسس الرئيسية التي تقوم عليها علاقات التفاعل بين الاستراتيجي والتكتيكي التي وصفناها.
7ــ ماذا فعلت الأزمة الوطنية السورية بهذه العلاقة؟! فعلى عكس ما يعتقد البعض أن الأزمة وتراجع الطاقة الجيوسياسية السورية تحت ضغط الوقائع العسكرية والسياسية للتدخل الخارجي، والتطرف الإسلامي، قد أضعفت معادلات العلاقة المذكورة مع لبنان، أو قلبتها، فإن العامل السوري التفاعلي الاستراتيجي بقي الحاسم، والأكثر تأثيراً واستقطاباً في لبنان، على الرغم من حقائق الانشغال والضعف وتراجع الطاقة الجيوسياسية السورية، كان لبنان الساحة الأكثر تفاعلاً وتأثراً في مجموع التفاعلات المشرقية بتأثير ما يجري في سوريا. وأعتقد أن جوهر الضرورات الموضوعية للعلاقة الاستراتيجية سيبقى، وربما سيتطور أكثر فأكثر حتى ولو حصلت احتمالات تطور أساسية أو تكتيكية في سوريا.
* قيادي يساري ـ سوريا