لا يرمي المقال إلى الحديث عن حالة «العسكرة»، التي أصابت الحراك الشعبي في سوريا، وحرفت الانتفاضة السلميّة عن مسارها، وحوّلتها شيئاً آخر. ولا يبتغي مناقشة تأثير ذلك على إمكانية حل سياسي للأزمة السورية، على ما قد يوحي العنوان. بل ينشغل في إثارة نقاش حول عسكرة السياسة نفسها، وهي مسألة لا تبدو طارئة على الثقافة السياسية والعمل السياسي السوري، بقدر ما هي ظاهرة تضرب عميقاً في جذور تاريخ هذا البلد، منذ استقلاله، وحتى لحظته السياسيّة الراهنة.ثمّة أمران أساسيان يدفعان نحو عسكرة المجال السياسي، أولهما دخول السياسة إلى الجيش، وهي أسوأ مرض قد يصيب أي جيش، بحيث يغدو طرفاً «سياسيّاً»، أو أطرافاً متعددة الأهواء والمصالح، عوضاً عن دوره كمؤسسة وطنية لا شأن لها بالصراع السياسي. الأمر الثاني، وينتج غالباً من الأول، تدخّل العسكر في الحياة السياسية للبلاد.
قد يحدث التدخّل حين يصبح الجيش أداةً في يد هذا الفريق السياسي أو ذاك، يستعملها لتحقيق مصالحه، وللضغط على خصومه السياسيين. أو بالعكس، تتبدّل الأدوار، بحيث يستخدم العسكر فريقاً سياسيّاً كواجهة تغطّي دورهم «السياسي»، أو حتّى إمساكهم بالسلطة الفعليّة. في كل حال، فإنّ عسكرة المجال السياسي تتنافى بالضرورة مع دمقرطته، تماماً كما في تديين السياسة، على نحو ما تقوم به تيارات الإسلام السياسي. فتطال العسكرة المجال العام، وتتبنّى مختلف الإدارات والمؤسسات، تدريجيّاً، الهرميّة العسكرية، والعقلية الأوامريّة، في عملها. يغيب منطق التعاون لصالح علاقة الرئيس والمرؤوس، تماماً كالسلك العسكري. ولا تسلم الأحزاب من ذلك.
ولعل تتبّع بدايات الظاهرة، ومناقشتها، يبدآن في بحث أسباب قِصَر أمد التجربة الديمقراطيّة السورية، بعد الاستقلال، والتي لا تكاد تبلغ ثماني سنوات متقطّعة؛ ثلاثٌ بين انسحاب الفرنسيين من سوريا، 17 نيسان 1946 وحتى 29 آذار 1949، حين وقع انقلاب قام به رئيس أركان الجيش، آنذاك، حسني الزعيم، فعزل الرئيس شكري القوتلي ونفاه من البلاد، وحل البرلمان، وأعلن حكماً عسكريّاً، عكّر تجربة سوريا الفتية في الديمقراطيّة. ثمّ أربع سنوات، بدأت بإسقاط حكم العقيد أديب الشيشكلي، واستئناف الحياة الديمقراطية في البلاد، أواخر شباط 1954، لتنتهي مع عودة الديكتاتوريّة مجدداً، أول شباط 1958، بإعلان الوحدة مع مصر، تحت حكم عبد الناصر الاستبدادي. وبنهاية دولة الوحدة، 28 أيلول 1961، جرت محاولات لإعادة النظام الديمقراطي، لم تثمر أكثر من بضعة أشهر، طُويت صفحتها صبيحة الثامن من آذار 1963، وحتّى إشعارٍ آخر.
لم تخلُ الانقلابات من دورٍ لجهات سياسيّة سوريّة، بالدعم، أو التغطية، وصولاً إلى المشاركة في السلطة التي يقيمها العسكر. الأحزاب الأيديولوجيّة كانت صاحبة اليد الطولى في هذا المجال، خصوصاً الحزب السوري القومي الاجتماعي (أسسه أنطون سعادة عام 1932)، وحزب البعث العربي الاشتراكي (نشأ من اندماج حزب البعث، الذي أسسه عام 1940 ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وبين الحزب العربي الاشتراكي، الذي أسسه عام 1950 أكرم الحوراني، أحد أشهر السياسيين في التاريخ السوري، وحصل اندماج الحزبين خلال حكم الشيشكلي). في حين لم تخرج الانقلابات بعد عام 1963، عن كونها صراعات بين البعثيين أنفسهم.
يُذكر أنّ أكرم الحوراني، هو أول من أدخل «سوسة» السياسة إلى الجيش السوري، لتتبعه باقي الأحزاب، وقد لعب، شخصيّاً، أدواراً هامّة في العديد من الانقلابات.
غير أنّه لم يكن للجيش، بمفرده، أن يقطع طريق التطوّر الطبيعي للتجربة السورية في الديمقراطية، لولا التدمير الثقافي الممنهج لها، على يد الأحزاب الأيديولوجية، والتي استلهمت النموذج الفاشي السائد في أوروبا بين الحربين، فترة ظهور تلك الأحزاب، بعد أن تبيّنت عدم قدرتها على بلوغ السلطة عبر الأدوات الديمقراطية، لتحقيق مشاريعها الكبرى، ما دفعها إلى تسييس الجيش لاستخدامه في الاستيلاء على السلطة، فانقلب السحر عليها، وراحت على السوريين جميعاً!
عندما يضع خصوم السياسة بيضهم كلّه في سلة الجيوش، فإنّ ذلك يعني مزيداً من دور العسكر في مستقبل البلاد، بصرف النظر عن هوية من يُحسم الصراع لصالحه. وهو ما يتناقض حكماً مع متطلّبات المشروع الديمقراطي. ولا يبدو النزاع السوري الحالي بعيداً عن هذا. يزداد دور العسكر خطورة في زمن الاضطرابات السياسية، والتحولات الكبرى. فبعد الحسم وانتصار أحد الأطراف، لا يبقى الجيش على حياده تجاه التطوّرات السياسية اللاحقة، والانقلابات العسكريّة إحدى أهمّ وسائل احتواء الغليان الشعبي. لعلّ التجربة المصريّة اليوم أمام امتحان كهذا، فهل أطاح الجيش المصري فاشيّة الإخوان الدينيّة ليقيم حكماً عسكريّاً؟
تبقى الإشارة إلى أنه عبر تاريخ تغلغل الولايات المتّحدة في المنطقة، كانت الأجندة الأكثر تفضيلاً لوكالة الاستخبارات الأميركيّة، هي التفاوض في الغرف المغلقة مع الفرد الذي يستطيع فرض أمر واقع يحمي مصالحها، وغالباً ما حملت الانقلابات العسكريّة أفراداً من هذا النوع إلى الحكم. لا يتعلّق الأمر بـ«نظرية المؤامرة»، بل إنّ آفة محلّية اسمها عسكرة السياسة، كفيلة بتعبيد الطريق، على الدوام، أمام سيناريوهات من هذا القبيل.
* كاتب سوري