تحتدم المعركة في سوريا، وكذلك تتجه المنطقة بكاملها نحو المزيد من التصعيد والعنف في مصر وفي العراق، وعلى خط الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما في بقية المناطق الساخنة أو المتفجرة كالسودان وليبيا والبحرين واليمن. قد نكون على مقربة من إمكانية انعقاد التسوية، ولكننا بالمقابل في عين العاصفة وفي قلب ذلك المخاض إياه... مخاض إعادة رسم خريطة المنطقة السياسية أو ولادة الشرق الأوسط الجديد. هي لعبة أمم من دون أدنى شك، يقف لبنان منها متفرجاً كما لو أنه لاعب احتياط، وقد تم تحييده، وإن كان قد اعتاد أن يكون حقلاً أو مختبراً للتجارب! على أية حال، فإن لبنان لا يسعه سوى أن ينتظر، وهو لا يستطيع أصلاً أن يفعل شيئاً سوى انتظار وترقب ما سوف تتكشف عنه ميادين المعارك، نظراً إلى صغر حجمه وضعف وزنه أو ثقله السياسي. وهذا أمر ليس جديداً أبداً، إذا ما استثنينا ما طرأ على معادلة التوازن لناحية الصعود السياسي للمقاومة ووظيفة سلاح حزب الله محلياً وإقليمياً. فما الذي يعنيه طول انتظار لبنان، وهو يراوح مكانه بين عتبة التفجير المستطير من جهة واستحالة أو صعوبة التشكيل أو التأليف أو انعقاد مجلس النواب أو تأمين النصاب أو التعيين أو انتخاب... من جهة أخرى؟! وما الذي يمكن قوله حول واقع لبنان السياسي والسوسيولوجي في إطار النظرة العامة والتحليل الشامل للمنطقة والعالم؟لقد طال بالفعل أمد البحث في تشكيل الـحكومة اللبنانية، وبرزت للعيان حقيقة التباينات الجوهرية بين مختلف الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية على الساحة المحلية. فلا شك أن هناك ثمة أزمة سياسية في البلد على خلفية الخلاف على توزيع الحقائب الوزارية والحصص، وكذلك التوازنات الداخلية، وكيفية ومقدار تمثيل القوى والتيارات السياسية في الحكومة العتيدة، ولا أحد يستطيع أبداً أن ينكر هذه الحقيقة، لناحية وجود مشكلة حقيقية في ما يتعلق بتأليف الحكومة اللبنانية، نتيجة إخفاق كل المحاولات السابقة لتدوير الزوايا وتذليل الصعوبات بقصد الوصول إلى صيغة تلقى قبول الأطراف المعنية بالشأن الحكومي. ولكن الحقيقة أيضاً أن مسألة تشكيل مجلس للوزراء في لبنان، يتولى السلطة التنفيذية كاملة في ظل الظروف الصعبة التي تحدق بالبلد والمنطقة، هي من الأهمية بمكان بحيث إن تعثر ولادة هذه الحكومة كغيرها يعكس خطورة هذه اللحظة السياسية والتاريخية، ويدلل على ارتباط هذه المسألة وغيرها من التحديات والاستحقاقات السياسية والوطنية بمجريات الأحداث في سوريا خصوصاً وفي المشرق عموماً. من الواضح طبعاً أن كل الأطراف الداخلية غير قادرة على تفكيك هذه المعضلة عند تشكيل الحكومات في لبنان منذ توقيع وثيقة الوفاق الوطني، وقد اقتضى هذا الأمر دوماً التدخل الخارجي من قبل سلطة الوصاية أو القوة الراعية الإقليمية للتوفيق ما بين الإرادات اللبنانية المتخاصمة أو المتناحرة أو حتى فرض التشكيلة الوزارية بالقوة. هكذا يبدو واضحاً في الفترة الأخيرة، منذ اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري وانسحاب القوات العربية السورية من الأراضي اللبنانية، وما أعقبهما من فراغ سياسي وأمني، قصور القيادات اللبنانية وعجزها عن تسيير دفة الحكم والتعامل مع قضايا الناس، حتى لا نقول إن هذه الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان لا تدرك واقعاً جوهر أقانيم الاستقلال والحرية والسيادة في الممارسة السياسية على قاعدة الديموقراطية والتداول السلمي واستمرار عجلة السلطة. من هنا، يمكن القول إن الفراغ الحكومي الذي يعيشه البلد منذ شهور عدة هو نتيجة الخلل في النظام السياسي والدستوري أولاً، ومن ثم ترهل وفساد هذه الطغمة السياسية والاقتصادية نفسها التي تدير البلد وتقبض على مفاصل السلطة ومظاهر النفوذ فيه ثانياً، فضلاً عن شدة ارتباط مجريات العملية السياسية في لبنان بما يدور من حوله في سوريا وكذلك في فلسطين المحتلة وغيرهما من بلدان الجوار والمنطقة العربية
ثالثاً.
هذا الفراغ على مستوى السلطة التنفيذية إنما ينعكس على الوضع العام داخل البلد، حيث ينسحب على بقية المؤسسات السياسية والدستورية في لبنان، وخاصة المؤسسات العسكرية والأمنية. فقد أدى التعطيل على نطاق واسع للهيئة التنفيذية العليا أو المركزية إلى تعطيل معظم، بل مختلف المرافق أو الهيئات العامة على صعيد القضاء والمال والتعليم والعلاقات الدولية والدبلوماسية وأمن البلد بشكل شبه تام، أو أقله إلى تقويض فعالية عمل هذه المؤسسات الرسمية الوطنية. لم يعد من المقبول استمرار هذا النمط من التعاطي السياسي مع ملف تأليف حكومة وطنية بأقصى سرعة ممكنة، لما له من أهمية سياسية واقتصادية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان والمنطقة العربية، فالمطلوب من قبل جميع القوى السياسية المعنية بالتفاهم على صيغة حكومية جامعة أن تدرك مخاطر التباطؤ والتمادي بالمزايدات والمناكفات، بدل أن تسرع في عملية إنجاز هذه المسألة الوطنية بامتياز، وأن تعمل تالياً على تذليل العقبات التي تحول حتى يومنا هذا دون اتفاق اللبنانيين على تشكيل حكومة إنقاذ أو طوارئ بقصد التصدي العاجل للتحديات الوطنية والقومية والدولية. فقد أدى ذلك الفراغ على مستوى السلطة التنفيذية وعلى مستوى القرار السياسي إلى تفريغ مختلف المؤسسات العامة، وخاصة على مستوى القيادة والهيئات العليا ومجالس إدارة تلك المؤسسات، من مثل مجلس الجامعة اللبنانية والمجلس العسكري ومجالس قيادة قوى أمن البلد، وقبل ذلك السفارات أو البعثات الدبلوماسية والقنصلية اللبنانية وهيئات التفتيش والمحاسبة، ومن ثم فقدان أو انعدام الثقة الداخلية بالدولة من قبل المواطن العادي، نتيجة تخاذل أو إهمال أو تغافل ما، وكذلك الثقة الدولية بلبنان وبقدرة أية حكومة في المستقبل على تأمين الوفاء بالتعهدات الدولية المقطوعة أو المستحقة. هكذا يمكن القول إن استمرار حالة الفراغ السياسي والدستوري في لبنان وتفاقمها، على الرغم من وجود حكومة تصريف أعمال، وعدم قدرة مجلس النواب على عقد جلسة عامة والتشريع، ومن ثم شلل العديد من هيئات الدولة وأجهزتها، من شأنه كله أن يفضي إلى تسريع واقع انهيار هذه الدولة ومؤسساتها بالكامل ومعه الفشل بمشروع إعادة بناء الوطن على أسس
سليمة.
هنا ينبغي التنبيه إلى تدنّي مستوى الخطاب السياسي، بل إسفاف البعض أو العديد من السياسيين في التصريح أو التحليل السياسي، وتصاعد حدّة الخلاف السياسي بين مختلف الفرقاء، حيث ينقسم المجتمع السياسي اللبناني بشكل عمودي حاد على أسس فئوية، غالباً ما تكون طائفية ومذهبية، وحتى مناطقية أو إقليمية، بما يتهدد وحدة النسيج المجتمعي والبناء الوطني من الداخل، فضلاً عن تفاقم اضطراب الوضع الميداني في إشارة إلى احتقان الشارع وغليانه بفعل التصعيد وتشنّج المواقف السياسية وتصدّع أمن واستقرار البلد والناس. وقد ساهم اختلاف بل انقسام اللبنانيين حيال الصراع في سوريا، وكذلك انغماس جميع اللبنانيين من دون استثناء بما يجري في سوريا، والتدخل غير المسبوق من قبل في الشأن السوري، بتغذية النعرات وإيقاظ الفتن، كما بزعزعة استقرار الوطن والمواطن وأمنهما. قد يختلف اللبنانيون في تقويم المشهد المستجد في سوريا وكل المنطقة، وفي قراءة أو تأويل كل تلك المستجدات السياسية والميدانية، وهم يختلفون أيضاً في كيفية التعامل ربما مع ملف النازحين السوريين، وطبعاً موضوع تسليح المعارضة السورية ومساندتها، ومسألة النظرة حيال النظام القائم والعلاقة معه. ولكن كان حريّاً بجميع اللبنانيين، على كل الصعد والمستويات، ومن مختلف الطوائف والمذاهب، أن يعلموا بأن ما يحصل في سوريا وبقية بلدان المنطقة العربية هو بالتأكيد أكبر بكثير من كل لبنان، وهو أبعد من مجرد البحث في سبل التحول أو التطور الديموقراطي، وهو لكل ذلك أخطر مما يمكن أن يتصوره البعض على مستقبل لبنان ومصيره، ومعه كل دول المشرق العربي. فتوتر الوضع في الميدان أو الشارع، في أكثر من بقعة أو مكان، نتيجة تقابل المواقف وتصادم المصالح، ودخول أطراف خارجية على خط الصراع الداخلي اللبناني، وعليه احتمال انتقال شرارة الفتنة وحرب ما إلى لبنان من داخل سوريا أو من ناحية فلسطين المحتلة، كله يفيد عن إمكانية انفجار الوضع في لبنان، وما استمرار حالة الهدوء النسبي أو عدم بلوغ التصعيد حد الموجهة المعلنة والشاملة سوى نتيجة عدم وجود قرار دولي حتى اليوم بإقحام الساحة اللبنانية في المعركة الكبرى، وما تفسير ما يحصل ويمكن أن يحصل في لبنان من أحداث أمنية سوى أنه من ملامح وإرهاصات هكذا ارتباط عضوي للبنان بمحيطه العربي وتبعية مفرطة لعامل التدخل الدولي من طرف أجنبي أو إقليمي!
مرة أخرى يقف لبنان على مفترق طرق خطير، وهو يبدو كما في كل مرة ضعيفاً ومتلقياً أكثر منه قادراً على المبادرة الفاعلة، ذلك أنه يفتقد تاريخياً مؤسسة أو ثقافة الوحدة الوطنية التي يُفترض أن تكون الدولة الوطنية مدماكها الرئيسي بل المركزي. لقد أثبتت التجارب التاريخية مراراً وتكراراً عدم قدرة لبنان على التأثير بقوة في محيطه، كما في النظام العربي والدولي بنفس مقدار انعكاس تلك المعطيات من خارج حدوده على واقعه الداخلي وتأثيرها على مسار العملية السياسية فيه، حتى إن التوازن الوطني في لبنان كان على الدوام بشكل أو بآخر انعكاساً للتوازنات الدولية والعربية. ما يخوضه لبنان اليوم ليس مجرد أزمة حكومة أو أزمة حكم، وكذلك فإن لبنان لا يعيش حتى مجرد أزمة نظام سياسي واجتماعي، وإن كان كل ذلك صحيحاً وقائماً فعلاً على أرض الواقع. إنها أزمة كيان بكل معنى الكلمة، فهي أزمة مزمنة ومستفحلة، وهو كيان غير قابل للحياة، إذ لا يمكنه أن يحيا حياة مستقرة وطبيعية كغيره من الأمم والشعوب، وقد يكون أيضاً غير جدير بالحياة ما لم تعلُ إرادة الشعب اللبناني للتغيير المنشود في العقد أو الميثاق من أجل المحافظة على الصيغة... أو ربما تغيير أو إعادة إنتاج صيغة جديدة بشكل جذري للكيان برمته وللدولة من أساسها!
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا