حدّد الدستور اللبناني مواعيد انعقاد مجلس النواب في عقدين عاديين ضمن المادة 32 منه، والتي تنص على أن «يجتمع المجلس كل سنة في عقدين عاديين الأول يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار (مارس) وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار (مايو)، والعقد الثاني يبتدئ الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول (اكتوبر) وتختص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة».
والجدير ذكره بأن المشرّع الدستوري وضع قيداً مفاده بأن العقد الثاني خصص لمناقشة مشروع الموازنة المقدم من الحكومة قبل أية مسألة أخرى بغية عم تعطيل البلد. ونظراً لخطورة هذا الموضوع، أعطى الدستور الحق للحكومة بحلّ البرلمان ضمن المادة 65/4 إذا كان القصد من رد الموازنة برمتها شلّ يد الحكومة عن العمل. فيما خلا العقدين العاديين، لا يجوز لمجلس النواب الانعقاد إلا بعقود استثنائية. وهذه العقود قد تفتح بالاتفاق أو بظروف معينة أدت إلى ذلك. أما العقود الاستثنائية المتفق عليها (في ما خصّ موضوعنا) فتقع ضمن المادة 33 من الدستور، والتي تنص على «أن افتتاح العقود العادية واختتامها يجريان حكماً في المواعيد المبينة في المادة الثانية والثلاثين. ولرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة أن يدعو مجلس النواب إلى عقود استثنائية بمرسوم يحدد افتتاحها واختتامها وبرنامجها. وعلى رئيس الجمهورية، دعوة المجلس إلى عقود استثنائية إذا طلبت ذلك الأكثرية المطلقة من مجموع أعضائه». وفي كلتا الحالتين المبينتين في المادة السابقة، يجب على رئيس الجمهورية تحديد وقت افتتاحها وانتهائها والأهم من ذلك المواضيع التي سببت فتح الدورة الاستثنائية.
من هنا، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: ما مدى سلطة المجلس في أدوار الانعقاد الاستثائية، من حيث قدرته على مناقشة أي موضوع آخر يخرج عن الموضوع المحدد في مرسوم الدعوة؟ ذهب رأي البعض إلى أن المجلس بعد مناقشته المواضيع التي دعي لأجلها والمحددة بمرسوم الدعوة، يستطيع النظر في مسائل أخرى يراها مهمة، فهو يستعيد اختصاصه كاملاً في أدوار الانعقاد الاستثنائية. في المقابل، ذهب رأي آخر إلى أنّ المجلس مقيّد بموضوع الدعوة دون غيرها ولا يستطيع النظر في أية موضوع آخر حتى ولو اتم مناقشه المواضيع المذكورة في مرسوم افتتاح الدورة الاستثنائية والبتّ فيها قبل انتهاء المدة المحددة في المرسوم، سواء كان مرسوم الدعوة بالاتفاق بين رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة، أو بناء على رغبة الأكثرية المطلقة من مجموع أعضاء مجلس النواب. والرأي الثاني هو الرأي الراجح كون افتتاح دورة استثنائية يكون لمناقشة مواضيع طارئة ومستعجلة، أما أمور التشريع العادية فيمكن أن يتريث المجلس في اقرارها لحين انعقاده في دورات عادية.
أما العقود الاستثنائية «القسرية» (في ما خص موضوعنا أيضاً) فنصت عليها المادة 69/3: «عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة». وإذا ما اُعيد طرح السؤال السابق نفسه عن مدى سلطة مجلس النواب في التشريع، يتبيّن أن صلاحيات المجلس تنحصر في الانتظار حتى تأليف الحكومة وطرح بيانها الوزاري عليه لأخذ الثقة. وعند أخذها الثقة، ينتهي حكماً العقد الاستثنائي ولا يجوز التطرق إلى التشريع العادي ما لم يكن المجلس قد دخل فعلاً في أوقات انعقاد الدورات العادية كما بينته المادة 32 من الدستور.
وقياساً على ذلك، يمكن النظر إلى المادة 74 من الدستور والتي تنص على أنه «إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس (رئيس الجمهورية) أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون، وإذا اتفق حصول خلاء الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلا تدعى الهيئات الانتخابية دون ابطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية». من خلال المادة السابقة، يتبيّن أمران: 1ــ إن انعقاد المجلس في هذه الحالة يعتبر استثنائياً، فهل يجوز التشريع في الفترة بين فراغ سدة الرئاسة وانتخاب الخلف؟ الجواب طبعاً بالنفي؛
2ــ إن نظام الحكم في لبنان هو نظام برلماني يقوم على توازن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومع أهمية وجود رئيس الجمهورية، تكمن الأهمية الكبرى في وجود الحكومة المنوط بها السلطة الاجرائية والتي تحل وكالة محل رئيس الجمهورية في حال انتهاء مدته أو موته أو عزله أو اتهامه (خرق الدستور أو الخيانة العظمى) من قبل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. فكيف يكون التشريع مسموحاً في العقد الاستثنائي عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة وعدم القدرة على التشريع في العقد الاستثنائي عند خلو سدة الرئاسة الأولى؟ قد يعطي البعض مبرراً بأن الدستور لم يحدد لرئيس الحكومة المكلف وقتاً محدداً لتأليف الحكومة، لكن الرد على هذه المقولة يكمن في عدم وجود فراغ أصلاً كون الحكومة المستقيلة مكلفة بتصريف الأعمال والكل متفقاً على حقها في اتخاذ القرارات حال وجود ظروف استثنائية حقيقية.
ولكن ماذا لو طرأت ظروف استثنائية؟ هل يجوز التشريع في العقود الاستثنائية؟
حدد مجلس الشورى اللبناني في القرار رقم 1227 تاريخ 1/8/1963 الظروف الاستثنائية إذ ذكر أنه «في حال حدوث ظروف استثنائية تحرر السلطة من وجوب احترام الأصول الجوهرية التي تنص عليها القوانين والأنظمة وحتى وجوب احترام الحريات العامة التي يكرسها القانون ولكي تتوفر الظروف الاستثنائية:
أولاً: أن تكون الظروف استثنائية حقاً؛
ثانياً: أن تكون المصلحة العامة أملت اتخاذ التدابير المشكو منها؛
ثالثاً: أن تكون الإدارة مضطرة لاتخاذ هذا التدبير توصلاً للهدف المقصود».
ويمكن إضافة بند رابع يكمن في انتهاء التدابير الاستثنائية مع انتهاء الظروف الاستثنائية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا التصرف يخضع للرقابة القضائية، فيمكن للمتضرر من التدابير الاستثنائية اللجوء إلى مجلس شورى الدولة والطعن فيها. عندها، يقوم المجلس بفحص مدى استثنائية الظروف التي حدت بالسلطة لاتخاذ هذه التدابير أهمها عنصرا السبب والغاية، ويصدر قراره بناء على ذلك. فيجوز مثلاً الطعن بقيام حكومة تصريف الأعمال بتعيين أحد الموظفين بحجة الظروف الاستثنائية أمام مجلس شورى الدولة إذا يتطلب اجتماعها ظروفاً استثنائية قبل اصدار قرارات تعتبرها استثنائية.
تبعاً لذلك، أصبح من المتفق عليه أن الظروف الاستثنائية والقاهرة تجيز أخذ التدابير المناسبة على قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، ولكن هل نعيش في لبنان حالة الظروف الاستثنائية التي ترمى على الطاولة كورقة ضغط عند كل مفصل سياسي أو استحقاق معيّن؟
الواقع أننا نعيش ضمن نظرية «الظروف السياسية» وليست الاستثنائية، إذ ليس هناك من حالة حرب، أو فوضى أمنية عارمة، بل هو تعنّت سياسي في أخذ المواقف، ما وضع البلد في حالة شلل، وهو يزيد الضغط على المواطن ومتطلباته المعيشية وقدراته المادية التي تتدنى يوما بعد يوم. ففي أشد «الأزمات الاستثنائية»، كانت السياسة مفتاح الحلّ وهناك العديد من الأمثلة التي تعزز ذلك.
في زمن الحكومتين (حكومة عون ــ حكومة الحص)، تمّ الاتفاق بين السياسيين على ضرورة نأي مصرف لبنان عن الصراع وتوحيده وعدم المس به، والفضل يعود إلى الدكتور ادمون نعيم الذي كان حاكماً للمصرف آنذاك. ومن الأمثلة القريبة جداً، اتفاق الفرقاء السياسيين في لبنان على ضرورة اقرار قانون انتخابي جديد وذلك في الفترة الممتدة ما بين استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي واقرار القانون رقم 246 تاريخ 31/5/2013 القاضي بتمديد ولاية مجلس النواب حتى 20 تشرين الثاني 2014، بينما وقع الخلاف بينهم عند التطرق إلى مدى قدرة مجلس النواب على التشريع ضمن العقود الاستثنائية عند الحديث عن التمديد للقيادات الأمنية (عبر تعديل القوانين المرعية الاجراء ومنها قانون الدفاع الوطني بهدف التمديد لقائد الجيش) وعدم شرعية الجلسات التي يدعو اليها رئيس المجلس وضرورة اصدار مرسوم بفتح دورة استثنائية لاعتبارها قانونية. لكن السؤال التالي يطرح نفسه هنا: كيف يتم فتح دورة استثنائية والمجلس أصلاً في حال انعقاد استثنائي؟ إن الموضوع بأكمله يقع ضمن عملية «الابتزاز السياسي»، فاذا اتفق السياسيون على التمديد لمدير قوى الأمن الداخلي المتقاعد اللواء أشرف ريفي، سينسحب ذلك مباشرة على التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي التي ستنتهي ولايته في أيلول المقبل، ولن يتمّ الحديث عن شرعية الجلسات أو عدمه بعد ذلك.
خلاصة القول تكمن في ما يلي:
إنّ ما نعيشه اليوم هو ظروف سياسية محضة ولا يمكن أن تكون بأيّ شكل من الأشكال ظروفاً استثنائية، فالصراع السياسي هو الذي يؤجل تأليف الحكومة الجديدة والظروف الاستثنائية براء منها. عندما تتوقف المشاحنات السياسية، تعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية؛
إن السياسة في لبنان تطغى على القانون في أماكن كثيرة، فكم من تلزيمات عقدت بالتراضي، وكم من امتيازات اعطيت بمراسيم، وكم من شركات ومؤسسات تتحكم في قرارات السياسيين؟ إذا اتفق السياسيون انتهت الأزمة؛
يجب الاسراع في تشكيل حكومة جديدة تقوم بدورها وتصرف شؤون البلاد كي لا يترك الأمر كسابقة يمكن تكرارها عند كل تأخير في تأليف الحكومة؛
تعديل المادة 53 من الدستور التي تنص على صلاحيات رئيس الجمهورية بإضافة بند يتضمن حق الرئيس باصدار مرسوم اعفاء رئيس الحكومة المكلف والدعوة إلى استشارات نيابية جديدة في حال مرور فترة زمنية معينة (شهرين مثلاً) من تاريخ التكليف دون تشكيل الحكومة على غرار المادة 64/2، والتي تلزم الحكومة بتقديم بيانها الوزاري لمجلس النواب ضمن مهلة 30 يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها؛
إن جلسات مجلس النواب التي تمت الدعوة اليها في آخر هذا الشهر (إذا ما انعقدت بعدما انفضت مرتين في السابق) لا يمكن إلا أن تكون جلسات تشاورية من أجل إيجاد الحلول السياسية وليست للتشريع وذلك بناء على قاعدة «عدم اجازة الاستثناء في الاستثناء».
* باحث في الشؤون القانونية
المراجع:
ــ الدستور اللبناني.
ــ محمد المجذوب، القانون الدستوري.
ــ إبراهيم شيحا، الوجيز في النظم السياسية ــ القانون الدستوري.
ــ إبراهيم شيحا، الوسيط في القانون الإداري.
ــ إبراهيم شيحا، مبادئ واحكام القضاء الإداري اللبناني.