يقف السوريون على عتبة تحولات مجهولة المآلات، إذ من الصعوبة بمكان التكهن بمصير ومستقبل سوريا. فحمّى الصراع الدموي، وتناقض المشاريع التي تُرسم لها، وتلك التي تحاول صياغتها قوى المعارضة والنظام، تبدو حتى اللحظة متناقضة ومحكومة بتقاطع تناقضاتها البينية مع التناقضات الدولية. لقد فشلت حتى اللحظة القوى الوطنية السياسية والأطراف المسلحة والنظام في صياغة مشروع سياسي وطني جامع.!<--break--> هذا العجز، إضافة إلى تناقضات هذه الأطراف الذاتية والداخلية الشكلانية والبنيوية، ورفضها لأي حل سياسي، يضع المجتمع السوري على عتبة التفكك والانهيار، ويساهم في تحويل سوريا إلى دولة فاشلة، وإلى أداة في حقل الصراع الدولي.
أمام هذه التحولات فإن جملة من التساؤلات والهواجس تُنغص حياة السوريين وتؤرقهم وتجعلهم يتخوفون من المستقبل: ــ ما هو شكل هوية سوريا السياسية: علمانية، ديمقراطية، ليبرالية، إسلامية؟ ما هو شكل الحكم فيما لو تمكن الإسلاميون من السيطرة على البلاد؟ كيف سيتم انتخاب الرئيس والهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية؟ هل سيمارس السوريون حقهم في الترشيح والانتخاب في لحظة يؤكد فيها قادة الكتائب الإسلامية أن مشروعهم السياسي هو إقامة دولة الخلافة الإسلامية، الشريعة الإسلامية والسنّة النبوية فيها مصدر التشريع الوحيد، وأولو الأمر والراسخون في العلم والهيئات الشرعية هم من سيحدد قيادات الدولة وكذلك (الحاكم)؟ وهذا يطرح تساؤلاً آخر: هل سيخضع السوريون إلى سلطة دينية إسلامية تستند إلى أغلبية عددية يمكن أن يقودها متطرفون؟ ولكون المسلمين يشكلون أغلبية سكانية فإن قادة الإسلام السياسي يرون في الهيمنة على السلطة وفرض عقيدتهم الدينية الأحادية على المجتمع، أحد حقوقهم المشروعة. ويأتي هذا في سياق زعمهم أن أقلية طائفية انتزعت السلطة وهيمنت عليها ووظّفتها قهرياً ضد أغلبية إسلامية. هذا الموقف يتحدد من منظور مذهبي ضيق ومشوه، لذا فإنه يثير التساؤل عن مصير الأقليات، وحقهم بالمشاركة في إدارة شؤون البلاد. فهل سيكون لهم حق الترشح والانتخاب؟ أم سيضطرون لاعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، وإن رفضوا كلا الخيارين فحدّ السيف. وهذا يثير الخوف على مصير التنوع الاجتماعي والثقافي.
ولمعرفتنا بأن تحرير الاقتصاد هو خيار الإسلاميين الاقتصادي. فإننا نؤكد أن من أسباب الأزمة الراهنة، تحرير الاقتصاد وتراجع الدولة عن دورها التنموي والاجتماعي. وقد بات واضحاً أن هذا التحوّل ساهم في تساقط أعداد كبيرة من السوريين الذين كانوا يشكّلون الحاضنة الشعبية للنظام في مستنقعات الفقر والتخلف والبطالة. إضافة لذلك فإن قمع السلطة للقوى السياسية الوطنية الديمقراطية، ساعد الجماعات الإسلامية على استقطاب الفئات المهمشة واستغلالهم كوقود في معاركهم الدينية الراهنة.
يعلم الجميع بأن هاجس السوريين، هو تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الحريات السياسية وحرية التعبير والاعتقاد. وهذا يدلل على تخوف الشعب السوري من إقامة دولة إسلامية قامعة للحريات، في لحظة بات فيها واضحاً إن الجماعات الإسلامية تكفّر الديمقراطية وتعاديها، لأنها لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية. وهذا لن يوافق عليه الشعب السوري، بل سيواجهه بمزيد من القوة والإصرار، لأن مشروعاً كهذا لا يحقق آمال الشعب السوري في التغيير الديمقراطي.
ونظراً لعجز الأطراف المتصارعة عن تحديد التناقض الأساسي، وإيجاد حلول وآليات تُخرج المجتمع السوري من أزمته الدموية، فإن تحديد مستقبل سوريا وإعادة صياغة هويتها السياسية والثقافية والاقتصادية سيكون مرتبطاً بتوازنات القوى الداخلية والدولية والإقليمية المحكومة بالتناقض. لقد حوّلت الأطراف الدولية، والمجموعات الجهادية، وصقور النظام والمعارضة، سوريا إلى غنيمة حرب، الكل يحاول النيل من أمنها واستقرارها وثرواتها ووحدتها الجغرافية.
لقد بات واضحاً أنه لن يكون في المستقبل القريب بمقدور أي من الأطراف حسم الصراع عسكرياً، ورغم ذلك يغلقون أبواب الحل السياسي. فالأطراف الدولية تعمل على زيادة حدة العنف، ما دام يخدم مصالحها ويساهم في تهديم كيانية الدولة وتفتيت المجتمع. ويتعامل الغرب وباقي القوى الإقليمية الفاعلة، مع ما يجري في سوريا على أنه مدخل لتنفيذ مشاريعهم في المنطقة. وتنفيذ هذه المشاريع من وجهة نظرهم، لن يكون إلا على أنقاض الدولة السورية وعلى أشلاء السوريين الذين تحوّلوا إلى وقود لحرب دولية بالوكالة. وهذا يخدم إسرائيل، ويسهّل عليها إعلان الدولة اليهودية.
ويبدو حتى اللحظة أن الغائب الوحيد عن المشهد السوري هو الشعب، رغم أن جميع أطراف الصراع تدّعي تمثيله. وبالرغم من معاناة المجتمع السوري من تداعيات الصراع، فإن غالبية السوريين لم تصطف على نحو واضح خلف أي من أطراف الصراع، لأنها لم تر منها إلا العجز والإقصاء والتخوين والارتهان للخارج، وتغييب صوت الداخل، والتمسك بالعنف وسيلة وحيدة لحل الأزمة. وقد بات واضحاً أن ارتفاع وتيرة العنف يساهم في قمع كافة الأصوات الوطنية الديمقراطية الرافضة للعنف، ويغلق أمامهم أبواب التغيير الديمقراطي.
ويمكننا القول إن جانباً هاماً من الصراع، يدلّل على أزمة وجودية تتعلق بالمفاهيم والقيم والسلوكيات، وكذلك الهوية والثقافة والتطلعات السياسية، وما نراه اليوم من تحويل المذاهب الدينية إلى واجهات سياسية يدلل على أن المجتمع يعاني أزمة حضارية نتيجة تراكمات فشل سياسي ساهم في إضعاف التماسك الاجتماعي وتخلّع بُنى الدولة. إن بنية الصراع الدائر وأشكال تجلياته تشير إلى أن موجات التديّن المسيّس والتمذهب المطيّف تشكّل بدايات استنهاض وعي قديم مشوه. وتمكين هذا الوعي اجتماعياً يساهم في تحريض الكامن من أسباب التخلف والصراعات المذهبية البائدة. وهذا يشير إلى دخول المجتمع في طور أزمة إنسانية.
فالمرحلة التي أعقبت الاستقلال لم تفض إلى بناء سياسات مستقلة تخدم المصالح الوطنية بشكل كافٍ، فكانت سوريا في دائرة التجاذب والمشاريع الدولية، لكن هذا لم يستطع أن يحجب المخاض الداخلي الذي يكشف حالياً عن وجود مشكلات وتصدعات خطيرة داخل السلطة والمعارضة والمجتمع، ويكشف أيضاً عن هشاشة الأوضاع الداخلية.
فكانت العلاقة مع الخارج تزيد من افتضاح الخلل البنيوي للنظام والقوى السياسية التي عجزت ومازالت عن تقديم مشروع سياسي وطني جامع للسوريين وعابر للتنوع الإثني العرقي المذهبي الديني والجهوي؟ إن الواقع السياسي والظواهر الظلامية التي تنبعث من جوف المجتمع المحكوم بالقوة، هي نتائج مرحلة سابقة لم تنته مفاعيلها، ونتيجة لمخططات دولية تتلاعب بها وتستخدمها لأغراضها ومصالحها. وهذا يدلل على أن المجتمع السوري يعاني في اللحظة الراهنة خطرين: استبداد سياسي يحاول جاهداً إعادة تجديد ذاته في مناخات جديدة، ويتحمل بنسبة كبيرة مسؤولية ما آلت إليه أوضاع السوريين سياسياً واقتصادياً، وأشكال من الإسلام السياسي الذي يدّعي تمثيل الإسلام والمسلمين. فالإسلام السياسي يكشف في اللحظة الراهنة عن ضعفه وتناقضاته ويتصرف بقواه وأدواته التقليدية، فيقدم نماذجه المشوّهة.
وإذا كانت القومية والليبرالية واليسارية والديمقراطية والعلمانية مشتقات من ثقافة غربية، فإن الإسلام السياسي الذي يحاول إخضاع المجتمعات العربية، يدّعي أنه وليد ثقافة المنطقة وممثّلها. فالمنطقة العربية، ليست فقط مهداً للإسلام الذي يدين به اعتدالاً غالبية العرب، كذلك هي مهد لكافة الديانات السماوية، وهذا يستوجب التعايش والمشاركة الاجتماعية دون إقصاء أو إلغاء. ومع هذا فإن الإسلام السياسي يمارس بأدواته التقليدية حجماً من العنف والإكراه والتسلّط أكثر بكثير من الإيديولوجيات الأخرى. فهو يعمل على إلغاء الهويات المجتمعية المتعددة والمتنوعة، ويهدّم الأسس الفكرية التي تأسس عليها الإسلام والتي تدعو إلى ثقافة الحياة والتعايش الإنساني المشترك، ويعتدي على الإسلام المعتدل ومن يدين به، وعلى تراث وديناميكية الإسلام الفكرية. ويقدم نموذجاً لهوية عصبوية منفصلة ومنقطعة عن حياة الناس وطموحاتها، ويؤسس لتنامي العنف والتشظي إلى عصبيات قاتلة و يفتح المجتمع على قوى الخارج ويضعه تحت وصاية قوى دولية تعمل على إلغاء إرادة الشعوب، وتقودها إلى عبودية جديدة تتناقض مع أي مشروع ديمقراطي وتنموي. وهذا يعكس تراجع تأثير ثقافة العروبة والاشتراكية والقومية لصالح اصطفافات طائفية ومذهبية تلوح في الأفق السوري، وتنذر بنشوء حروب دينية ومذهبية إقليمية.
فالصراع السوري يساهم في تشكّل اصطفافات جديدة، ويساعد على إنضاج التناقضات الداخلية. كذلك يستدعي تدخلات إقليمية ودولية تهدف إلى تعزيز مواقع المتدخلين في الصراع الدائر، دون النظر إلى ما يريده السوريون. وقد علمتنا تجارب الشعوب أن العوامل الخارجية مهما كانت قوتها، لا تستطيع أن تفرض ذاتها على شعب يمتلك إرادة الحياة والتغيير. ومن هذا المنظور، نرى بأن تحديد المآلات النهائية للتغيير يبقى لقوى الداخل الحرة. لكن آليات اشتغال التدخلات الخارجية، وصقور المعارضة والنظام، والإسلام السياسي، يساهم في إغلاق أبواب التغيير الديمقراطي مرحلياً. واللافت أن المعارضة السورية التقليدية تسير على ذات نهج السلطة، ما يجعل إعادة إنتاج الاستبداد سيناريوهات أكثر من ممكنة.
وبدلاً من أن تتفهم النخب السورية المعارضة وتحديداً الإسلامية، ظروف الأقليات وتعمل على تبديد مخاوفهم وطمأنتهم لمستقبلهم، فقد أخذت من تصريحات ومواقف بعض رجال الدين الموالين للنظام، ذريعة لاتهام الأقليات بالوقوف مع النظام ضد (الثورة). هذه المواقف تساهم في إغلاق أبواب الانتقال الديمقراطي، وتكبح إمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية، وتؤسس إلى نظام سياسي أكثر تخلفاً وقمعاً واستبداداً، وتُعبّد الطريق لعمليات تصفية جماعية تستهدف بشكل ممنهج الأقليات وكل من يعارض استبداد الأكثرية الدينية.
وإذا كانت الحداثة قد أسست لمبادئ عامة وأساسية في الفكر والسياسة والاجتماع، أولها أولوية العقل واستقلاله عن إملاءات العقائد الدينية والمذاهب الأيديولوجية والضغوط الطائفية والعشائرية والقبلية، وثانيها مبدأ الحرية الإنسانية وتلازمها مع الحداثة على المستوى السياسي،
فإن انتفاضات «الربيع العربي» وتحديداً بعد قبض الإسلام السياسي على ناصيتها، تساهم في تكريس مواجهة خارج التحول الحداثي، مواجهة تدور بين دولة لم تأخذ من الحداثة إلا آلتها القمعية ومظاهر الحضارة الشكلانية. وإسلام سياسي مغرق في الماضوية ويدعي تمثيل تراث الأمة، ويعمد إلى إفراغ الحداثة من مقولاتها ومضمونها الحداثي التنويري معتبراً الديمقراطية كفراً، لكنها وسيلة للوصول إلى السلطة.
إن ما يجري في سوريا والعالم العربي يفتقد روح الحداثة وثقافتها الديمقراطية، لذا فإن انتفاضاته مهددة بالفشل، فالأنظمة التي تطالب الانتفاضات بإسقاطها، تعاني تخلفاً بنيوياً وتمارس القمع ضد شعوبها وتتحكم بمصائره. لكن البدائل التي يطرحها قادة الانتفاضات، تساهم في تكريس مقدمات الاستبداد الديني والمذهبي الأشد تخلفاً. وهذا يهدد بارتكاس الهوية السورية والعربية إلى مكوناتها البدئية، ويساهم في إدخال شعوب المنطقة في أتون حروب دينية ومذهبية تعيد المجتمعات العربية إلى أشد مراحله تخلفاً. وتترسخ هذه الميول في سياق تراجع تأثير الفكر والوعي الديمقراطي والمدني والتنويري الحداثي الذي يجب أن يكون حاملاً لمشروع ديمقراطي عربي، ومساهماً في تأسيس هوية عربية حضارية حداثية.
* باحث وكاتب سوري