امتلأت الصحف بعناوين تتناول حريق برج فندق "العنوان" (The Address) في منطقة برج خليفة في مدينة دبي عشية رأس السنة. زعمت كل الأخبار ومقالات الرأي بأن إخماد حريق بهذا الحجم في زمنٍ قصيرٍ، لا سيما إخلاء الفندق بسرعة من دون وقوع أي ضحايا، يُعد نجاحاً مثيراً للإعجاب. كرّرت أبرز هذه الآراء الحجّة القائلة بأن اهتمام حكومة دبي بالبنية الأساسية وبتخطيط مدنها قد أثمر إنقاذاً للأرواح، وأن هذا يُعد برهاناً على أن العرب قادرون على تخطي صعوبات حكم مدن القرن الواحد والعشرين. كل ما يقف في طريقنا، اذاً، هو ليس ميراثنا "المتخلف" كعرب، الذي يمنعنا من التقدم، لكن الفساد والاستبداد حسب ما قال خالد علي مثلاً.
ولكن، هل يجدر فعلاً اعتبار إخماد حريق دبي نجاحاً؟ ونجاحاً لمَن؟

***
في مشهدٍ آخر، يمثّل النقيض المعاكس لحالة الاحتفال بنجاح مدينة دبي في إخماد الحريق، نجد أداء الدفاع المدني المصري في حريق مجلس الشورى عام ٢٠٠٨؛ عندما تم انتقاد جهاز الدفاع المدني الذي عجز عن إخماد الحريق ما تطلب تدخل مروحيات تابعة للجيش للسيطرة عليه، الأمر الذي أدى إلى نتيجة عكسية وسرّع انهيار المبنى لأن ضغط المياه جاء من أعلى وتسبب في تصدع المبنى. ومن أهم الانتقادات التي جاءت بعد هذا الحريق هو عدم تجهيز البنية التحتية في مصر لمثل هذه الظروف، واستمرت حجة الميراث العربي "الفاشل" على أنها سبب فشل إخماد الحرائق وانهيار البنية التحتية في القاهرة.
كيف لنا أن نحتفي بإنجازات تمّت بامتيازات أجنبية؟

لكن عقب اندلاع حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢، لم يكن أحد يجرؤ على القيام بطقوس جلد الذات العربية، مندداً بفشل الحكومة في التعامل مع الحريق الهائل، الذي رجح البعض كونه جزءاً من خطة ممنهجة للاحتلال البريطاني من أجل السيطرة على المصريين، أو من ضمن أعمال التحرير من قبضة الإنكليز، خاصاً أن الجزء الأكبر من "الحريقة" تركّز في منطقة وسط البلد التي كان فيها أغلب المحلات الأجنبية مثل شيكوريل أو روبرتس هيوس أو شيملا.
تاريخ البنية التحتية في مصر المحتلة هو من الأمور المثيرة بحق، فبتتبع منطق البنية التحتية يرينا منطق المستعمر في حكمه للبلاد. ليس عجيباً أن قضبان المترو (الترامواي) لم تكن تمر إلا في الإسكندرية والقاهرة فقط، وليس في أي من المحافظات والمدن الأخرى. ففي بناء حي مصر الجديدة نرى "نجاحاً" واضحاً للتخطيط، من أول مساكن عمال المترو في "جراج" المترو بألماظة مروراً بخطوط المترو السطحي الذي يخدم على حي مصر الجديدة كله. حتى فندق الـ"جراند اوتيل"، "قصر العروبة" الآن، كان له قضبان لمترو مصغر يمر بطول الفندق في وقت لم يكن لأغلب سكان القاهرة خارج أحياء وسط المدينة، بل سكان مصر ككل، وسيلة تنقّل. ففي "نجاح" تخطيط حي هليوبليس نتذكر كيف تم اسناد امتياز تطوير هذا الحي بالكامل للبارون لوي امبان لكي يحقق أرباحاً على حساب الخزانة العامة في الوقت الذي كانت فيه شركة سكك حديد مصر الكهربائية امتيازاً أجنبياً تم اسناده أيضاً لإمبان؛ وكان إضراب عماله عن العمل أثناء ثورة ١٩١٩ من أهم معارك الاستقلال. إذاً في هذه "النجاحات"، مثل بناء مصر الجديدة، نرى الاحتفاء بما هو إستعماري وأجنبي على حساب بقية الشعب الذي لا يتمتع بمثل هذه البنية التحتية، هل هذا إذاً نجاح لكل سكان مصر؟ وهل يمكنا أن نتكلم على نجاح واحد لحي أو اثنين في حين بقية نجوع وبقاع مصر لا يوجد لها تخصيص لمثل هذه الموارد؟
الدرس المستفاد هنا هو ضرورة التمييز بين ما يعتبر نجاحاً الآن لكن لديه تاريخ إقصائي وطبقي، مثل تاريخ البنية التحتية في مصر واستمرارية سياسات الاستعمار في الاستثمار في البنية التحتية للمناطق الحضرية المركزية بتكاليف باهظة، واعتبار كل الظروف القائمة خارج هذه الأحياء القاهرية "فشل"، نتيجة موروث مصري، من دون التطرق للتاريخ واستمرارية الديناميات الاستعمارية.

***
مهم إذاً أن نفهم أي نماذج يُحتفى بها ولماذا، خاصاً حين تصير هذه النماذج جزءاً من انتصارات الذاكرة الوطنية التي تمحو السياق التاريخي الذي يعكس حقيقة عنف الدولة، وتصورها على أنها انتصار لسيادة الدولة. ديمومة تسييس الذاكرة الوطنية تكمن في أن هناك نماذج عدة يُحتفى بها على أنها انتصار في حين أنها العكس تماماً. أكبر هذه الأمثلة هي "حملة التنوير" التي تنهال علينا من صحف عدة غرضها تصوير العصر الملكي في مصر برومانسية وعلى أنه عصر متنوّر؛ ومن كثرة مغالطات هذا الطرح يحتفي البعض بأن في العصر الملكي "نجح" عباس حلمي الثاني في تأسيس أحياء الزمالك وغاردن سيتي (راجع مقال نيوتن يوم ١١ يناير ٢٠١٦ في "المصري اليوم")، وهذا هو طرحي هنا: كيف لنا أن نحتفي بهذه الإنجازات التي تمت بامتيازات أجنبية ومع تهميش بقية أحياء مصر؟ أليس هناك من يتذكر أن في الزمالك قبل بناء كوبري ٢٦ يوليو لم يكن مسموحاً لمن يسكنون خارج الزمالك دخولها، وكان يذهب غفراء عقارات الزمالك الى خارجه لكي يجلبوا لسكانهم "تاكسي" لأنه لم يكن مسموحاً لهم الدخول اليه؟ أو منع دخول من يرتدي الجلباب ميدان محمد علي في الاسكندرية (ميدان المنشية الآن) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكذلك ضوابط حديقة الأزبكية التي كانت تستخدم تعسفياً لمنع دخول من يرتدي الجلباب. هل لهذا السبب يبقى موضوع دخول دار الأوبرا بالجلباب موضوعاً حساساً اليوم؟

فلماذا لا يتذكر نيوتن وقرؤه حادثة حريقة الموسكي عام ١٩٠٦، التي اندلعت في عهد عباس حلمي الثاني، والتي أدت الى احتراق فدان من البيوت في الموسكي، والفشل الذريع لمحطة المطافي التي كانت موجودة قريباً - فلم يكن في تلك الحقبة أي اختناق مروري يتسبب في تأخر وصول العربات التي كانت مستوردة من بريطانيا أو ماكينات رفع المياه التي لم تكن تشهدها مصر من قبل. على الرغم من ذلك، وجدت كتيبة الدفاع المدني صعوبة في السيطرة على الحريق، وفشلت فشلاً ذريعاً رغم أن أحصنتها - التي تجر عربات الاطفاء - كانت قد استوردت من إنكلترا خصيصاً لهذا الغرض (أي حماية أحياء الأجانب والأثرياء)، وكون محطة مطافي العتبة مصممة مثل محطات غلاسكو وبلفاست على أعلى طراز في ذلك الزمن. نرى إذاً إن تسييس الذاكرة الوطنية يحن لما هو أجنبي ويرفض اتهامه بالفشل، بل يروج دائماً لنجاحات مزعومة أو وهمية، في حين أن كل ما هو محلي وينتمي الى ما بعد الاستقلال يعامل تلقائياً على أنه "فشل". رغم كارثية حريق مجلس الشورى في عام ٢٠٠٨، إلا أنه يصعب وصف تعامل الدفاع المدني معه كحالة فشلٍ استثنائية - كأنما كانت تتم إخماد كل الحرائق بأمان في الماضي، قبل السيارات والكثافة المرورية، وكأن علم التخطيط في مدن مصر لم يكن منحازاً لمصالح الأجانب والطبقة الحاكمة.
بالعودة الى الحاضر، نجد نفس ادعاء "النجاح" يتكرر أيضاً في عملية إحالة وزير الزراعة السابق صلاح هلال في حكومة إبراهيم محلب على المحكمة، وإقالته بتهمة الفساد. فبنفس المنطق تطرح هذه القضية على أنها انتصار لدولة القانون على الفساد، متناسين تفاصيل القضية واعترافات رجل الأعمال الراشي - الذي في أغلب تقدير سينال حكماً مخففاً مع إيقاف التنفيذ من دون حرمانه من منصبه في شركته، كما هو العرف في دول أخرى عندما تتم إدانة شخص في مثل هذه القضايا. فيصبح القانون منحازاً لرأس المال ويتم توظيف هذا الحدث على أنه انتصار وليس مناورة محسوبة من الدولة للحفاظ على بقية تحالفاتها مع رجال الأعمال، بل تصبح القضية "سلاحاً" استراتيجياً في دحض "المؤامرات" التي تشير الى حماية الدولة لطبقة رجال الأعمال (في ظل اعترافات علنية لأحزاب وأعضاء مجلس النواب بأنهم ممولون من رجال أعمال) مع المطالبة بالمزيد من الحوافز للاستثمار وتحصين العقود بعيداً عن أعين القانون.
أهم درس إذاً هو أن خالد على ليس مخطئاً في قوله إن العرب لا يعتريهم موروث طبيعي يمنعهم من النجاح في الحكم والإدارة، ولكنه مخطئ في قوله إنه "الفساد" فحسب هو ما يعيقنا، فتصبح لدينا ثنائية خطيرة تقضي بأن الفساد متفشٍّ في كل مكان ولا حصر له وليس هناك من هو قادر على قهره، وأن ذلك يرجع لطبيعة الشعب المصري، وهو القول المشابه بل المطابق لحجة "ميراث العرب المتخلف الذي يمنعنا من النجاح"، كأن العرب بطبعهم كلهم فاسدون. فمثلما رأينا في قضية وزير الزراعة أحياناً تصبح قضية محاربة الفساد كنزاً للحكام للحفاظ على ما تبقى من تحالفتهم مع رأس المال عبر الدفع بحليف سابق الى السجن للحفاظ على العرش.
خصوصية الأزمة المصرية هي تشابه حكام ما بعد الاستقلال بالحكام الإنكليز الذين أدخلوا علينا هذه الطرق والأساليب للحكم من خلال بناء المدينة والبنية التحتية. فمثلما تفاجأ الإنكليز باندلاع "حريقة القاهرة" في يناير ١٩٥٢ وفشل البنية التحتية في القاهرة في التعامل مع الحريق، لم تهتم الحكومات المتتالية بعد الجلاء بالبنية التحتية إلا في المناطق المركزية الحضرية. وهذا أمر طبيعي لبلد لم يمارس فيها التخطيط العمراني إلا في المناطق التي اهتم بها الاستعمار، فتصبح المناطق خارج هذه المدن ليس لها حل سوى نزع الملكية دون بحث احتياجتهم، فهي أصبحت مناطق لا تسكنها سوى الطبقة العاملة والفقيرة، التي كانت من أشد أعداء الاستعمار (وبعد الاستقلال أصبحت أيضاً "أعداء الوطن" الذين وسموا بسكان المناطق "العشوائية" التي تحمل خطراً داهماً). هكذا أيضاً، تصبح المناطق الثرية التي تتمتع بالتخطيط، مثل وسط البلد التي ابتدأ فيها حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢، "أهدافاً" لأن ثراء الحكام يتركز فيها. هي تمتلك بنية تحتية جاهزة لعوامل استثنائية، لكن ليس ضد الأعمال التخريبية التي تستمر كنوع من التظاهر الطبقي (وقد يكون حريق القاهرة من بينها).

وهذا هو سبب "نجاح" حكومة دبي في التعامل مع حريق برج "العنوان" فماذا تتوقعون من بلد نفطي كان محمية بريطانية مثل مصر؟ رغم اصطدام قبيلة القواسم، في البداية، مع ترسانة البحرية البريطانية ما أدى إلى وصول حملة بريطانية أنهت حكم القواسم بمقتضى معاهدة سلام عام ١٨٢٠؛ تحولت الهزيمة هذه الى درس لبقية القبائل، التي لم يعترض أي منها على الوجود البريطاني، على عكس ما حدث في مصر، وهو الأمر الذي يفسر سطوع نجم بريطانيا في الإمارات وتنامي نفوذها في حين كانت القاهرة تحترق، بفعل فاعل، رفضاً لمنطق تقسيم المدينة وتخصيص مواردها للأجانب وحلفائهم. علينا أن نتذكر هذا الثمن الذي دفعته مصر في مقاومتها للاستعمار قبل التهليل لانتصارات دبي وفشل مصر، وأن تكون هذه هي نقطة الانطلاق لإعادة تخطيط مصر على نحو عادل بدلاً من الاحتفاء بتجارب الخليج التي تعمل على خلق مدن جديدة.

* باحث مصري