في مشرقنا الواسع (الشبيه جغرافيا بـ«الشرق الأوسط الجديد»)، لم تنشأ وتتبلور الدولة القومية على غرار ما حصل في أوروبا مع انتصار البورجوازية وسقوط الإقطاع، ومن ثم مع تبلور المؤسسات والكيانات والمنظومات السياسية والاقتصادية والأمنية والمالية والتشريعية... الضرورية للحفاظ على الدول القومية من جهة، وللدخول في منافسة مع الآخرين، من جهة ثانية (في نطاق سيادة العولمة).
لقد أدى خضوع بلداننا المديد للسلطنة العثمانية (نحو أربعة قرون) ومن ثم للانتداب الفرنسي والإنكليزي، ومن ثم للنفوذ الأميركي المعزّز بالغزو والاحتلال والقواعد العسكرية (بما في ذلك إنشاء الكيان الصهيوني ورعاية اغتصابه وعدوانه)، إلى تشوّه خطير في بنياننا السياسي والاقتصادي خصوصاً. نشأ إثر ذلك وبنتيجته واقع تبعية معقَّد، طبع العلاقات الخارجية لدولنا وحال دون استقلالنا السياسي والاقتصادي. وكذلك منع قيام حالة من الاستقرار والثبات المرتكزين على ركائز اقتصادية وسياسية ومجتمعية ومؤسساتية.
حالة التشوه هذه، الناجمة أساساً عن السيطرة الكولونيالية والإمبريالية، بدت أكثر قسوة، تماماً كما عبّر قائد الثورة البولشفية لينين حين كتب: «إن الألم الناجم عن سلطة البورجوازية هو أقل من ذلك الناجم عن عدم اكتمالها».
وسط هذه «الفوضى» تداخلت الأدوار، بل وحتى تضارب بعضها بحيث كان يخرج القطار أحياناً عن السكة المرسومة نظرياً له، وتنشأ حالات من الاضطراب الكبير الذي قد يمتد عقوداً كاملة.
من مظاهر ذلك الاضطراب، بعد التشوه الاقتصادي المدمِّر، الافتقار إلى قيام «عملية سياسية» متبلورة وثابتة ومعتمدة. ونكتفي هنا بتناول سريع لدور الجيوش في شرقنا الواسع، ضمن المسار المشوه المذكور. لم تكن الجيوش أداة للسلطة، كما هو الأمر في «الديموقراطيات الغربية». لقد أصبحت غالباً أو دائماً هي السلطة، أي هي التي تستحوذ على مقدرات البلاد وعلى قرارها وعلى علاقاتها. جرى ذلك بسبب توزع مواقع البورجوازية الكبيرة وتفككها، وبسبب فعل الولاءات القديمة، القبلية والعشائرية... وكذلك بسبب حرص دول المركز (المتروبول) على بناء علاقات ولاء وثيقة مع القادة العسكريين من خلال صلات مباشرة ومن خلال التدريب والمساعدات المتنوعة، ما كرس واقعاً شبه تام بأن الجيوش هي أداة سلطة خارجية لا داخلية، أي إنها أداة السلطة الفعلية الأصيلة لا الشكلية أو الوكيلة!
إنّ بعض التململ في الجيوش الذي عكس استياءً شعبياً عاماً في مرحلة ما قد جرى توجيهه، لاحقاً، نحو إغراء الإمساك بالسلطة والاحتفاظ بها. وفي حالات الأزمات على غرار ما خلفه الاغتصاب الصهيوني لفلسطين وتشريد شعبها ومن ثم مطاردته ومنعه من امتلاك كيان خاص به، ولو بشكل بسيط ومحدود، جرى تشجيع الطموحات العسكرية ووضعها في مواجهة التوجهات التحررية. أما حين اجتمعا في تجربة واحدة على غرار ما جسدته تجربة «البعث»، فقد جنحت الأمور نحو مزيج من الديكتاتورية والتمسك بالشعاراتية التحررية. وقد أنجب ذلك فرادة تباينت بدورها من العراق إلى سوريا، مع تمايز للتجربة السورية التي صمدت استناداً إلى دور في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وإلى «ممانعة» في مواجهة الخطط الأميركية المهيمنة، من جهة، والمنحازة دائماً إلى المصالح الإسرائيلية، من جهة ثانية.
وإذا ما قفزنا، دفعة واحدة، إلى «الربيع العربي» الذي يكتسب هذه التسمية فقط من كونه مخاضاً متحركاً من أجل التغيير (تحاول واشنطن وحلفاؤها العرب والأجانب مصادرة نتائجه) فسنقع على خريطة معبِّرة بشأن دور الجيوش في هذه المرحلة الانتقالية. جيوش دول «الربيع العربي»، وتحديداً في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا، تصرفت وفق مواقعها من السلطة. ففي الدول التي كانت تمارسها مباشرة: اليمن وليبيا وسوريا، خاضت معارك ضارية للحفاظ على موقعها وسلطتها وامتيازاتها. بعض الانشقاق الذي حصل لم يغيِّر في طابع الغلبة ما استدعى، في ليبيا، تدخلاً عسكرياً مباشراً للحلف الأطلسي، وفي اليمن ممارسة وصاية خليجية وأميركية لتحديد الخسائر، وفي سوريا ممارسة ضغط سياسي لتأمين توازن ما يؤدي وظيفة الاستنزاف لقدرات الجيش والبلد. استنزاف من شأنه تعطيل دور سوريا الإقليمي، على الأقل، لسنوات طويلة.
وفي كل من مصر وتونس، شكّلت الاحتجاجات والانتفاضات والثورة الشعبية، مناسبة لتعزيز دور الجيش الذي حاصر طموحات نخبه وقادته نشوء مافيات فساد ونهب اتجهت نحو صيغة التوريث لزيادة الاستئثار والهيمنة وتجويف المؤسسات.
ضمن مناورات «السيد الأميركي» دخل «الإخوان المسلمون» في خانة «البدائل». عوامل عديدة بينها نزوع غير مشروط عند قادة هؤلاء لتولي السلطة، جعل اتفاقهم مع التوجهات الأميركية، سريعاً وحاسماً. لكن «روح» «الربيع العربي»، عادت فبُعثت من جديد في شباب مصر خصوصاً (وكذلك في مخاض تونس) حيث تكشَّف مشروع الإخوان على حقيقته: مشروع متخلف على الصعيد الاجتماعي، ومشابه لتوجهات النظام السابق على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
من حيث الشكل، يبدو أنّ ثمة تعارضاً ما بين دوري الجيش: حين ضغط على السلطة السياسية من أجل تخليها وسقوطها، أو حين استجاب لاستخدام كل ما يملكه من سلاح وقدرات للدفاع عن النظام الذي هو نظامه قبل أي أمر آخر أو شخص آخر! الفارق، كما ذكرنا، في موقع الجيش من السلطة مباشرة. والفارق، أيضاً، في مدى خضوعه لنفوذ دول القرار الاستعماري. لكن في الجوهر، التوجه واحد: هو تعزير دور الجيش كبديل أيضاً، في تلك المرحلة الطويلة من اضطراب الأوضاع، وضعف البدائل التغييرية التقدمية، وتفكك، بل وتفتت، الكيانات نفسها، بفعل نمو وتشجيع نمو عوامل التفرقة والانقسام والشرذمة لمصلحة المزيد من وضع اليد الخارجية على مقدرات ومصائر المنطقة ودولها.
في مجرى كل ذلك يستحق الوضع المصري وقفة خاصة، ويستحق الوضع السوري وقفة مطوّلة: الأول، حيث تتعاظم الأزمة الاقتصادية في امتداد تطور اقتصادي مشرّع على أكثر من احتمال، والثاني حيث تتعاظم الأزمة السياسية في امتداد تأزم اجتماعي يتوسل الفتن المذهبية وانفعالاتها.
وإذا أضفنا إلى كل ما تقدم، ما حصل في الجزائر سابقاً، وما يحصل في البحرين حالياً، يتضح مرة جديدة خطر تشوّه بنيتنا الاقتصادية وخطر التبعية، وصحة ما لاحظه لينين وحاول تداركه قبل وفاته لجهة إدراك الأضرار الهائلة للتبعية والتشوه وعدم الاكتمال!
* كاتب وسياسي لبناني