ناقشنا سابقاً بعضاً من إشكاليات الوعي السائد، وتوصلنا إلى أن بنية الوعي وأشكال تجلياته لم ترقَ إلى مستوى ثقافة التغيير الديمقراطي. وكان هذا الاستنتاج يستند إلى عوامل متعددة ما زالت مفاعيلها تحدد المناخ السياسي العام، ونختصرها بما يلي: ــ قمع السلطة للقوى السياسية الوطنية في سياق اشتغالها على تجفيف منابع العمل السياسي الديمقراطي والمدني التنويري.
ــ تراجع الدور السياسي والثقافي التنويري للقوى السياسية والمدنية.
ــ انكفاء الوعي الاجتماعي المدني والعقلاني أمام تمدد وعي قبل وطني.

ــ تزايد تأثير عولمة الثقافة التي ساهمت في تخليع وتفكيك البنى الثقافية السائدة، والحواضن الثقافية المدنية والديمقراطية في سياق يجري فيه إعادة تشكيل أشكال من الوعي لا تعبّر عن وعي ديمقراطي، ولا تؤسس لثقافة ديمقراطية. وقد تعيّن هذا التحول في سياق اشتغال مراكز صناعة القرار الرأسمالي على صياغة أشكال وعي معولم يكرس استمرار هيمنة النمط الرأسمالي.
فكانت النتيجة بروز وعي نيو ليبرالي شكلاني استهلاكي ترفي مظاهري منفصل عن الواقع الاجتماعي، ومناقض للمنظومات المعرفية والفكرية والأيديولوجية الخاصة بالمنطقة.
إن أشكال الوعي الذي بدأت ملامحه تتضح أخيراً، كان يتشكل في سياق التغيّر المعرفي المستند إلى ثورة الاتصالات والمعلومات، ومتأثراً بموجات المد الثقافي العولمي. ولا يرتبط بأي من منظومات وأنساق ومدارس ومذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية.
لذا فإن تراجع دور الثقافة الديمقراطية، كان له بالغ الأثر في تغريب الوعي وانفصاله عن القضايا الاجتماعية الأساسية والمعرفية التنويرية. فكانت تجليات الوعي الجديد تفتقد المقدمات والأسس الضرورية لبناء مجتمع ديمقراطي، لذلك لم يكن الوعي الجديد نتاج تراكم وعي مدني ديمقراطي، بل تعبيراً عن ركام إشكالي وشكلاني من المعلومات المستندة إلى جذور الوعي الأحادي، وهذا يوضح إشكالية التقوقع حول الذات العارفة في سياق إنكار الآخر.
لكن الجديد هو تزايد حدة لغة العنف وأشكال تجلياته اللفظية والسلوكية في العلاقات الاجتماعية، لكونه يستند إلى ثقافة أحادية استئصالية تقاطعت تاريخياً مع سلطات شمولية استبدادية.
وحتى وقت قريب، كان يبدو ظاهرياً أن المجتمع السوري مستقر، لكن التحولات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية كانت تدلل على أنه استقرار سطحي وشكلاني مفروض بالقوة. وكان واضحاً أنّ الإفقار المادي والقمع السياسي راكما وعياً يتميز بالاحتقان، وساهما في تسريع نمو بذور ثقافة العنف، إضافة إلى ذلك فإن تراجع الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية أسّس لزيادة حدة الاستقطاب والتقوقع على الذات غير السياسية. فكنا نلحظ بدايات تكوّن وعي يتمحور حول الذات الفردية والهويات قبل الوطنية.
وهذا يعلل تفاقم مظاهر العنف الذي لم يكن تعبيراً عن رد فعل على عنف السلطة فقط، بل كان نتيجة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية واحتكار القرار السياسي، وانقطاع (قوى الثورة) عن جذور الثقافة الديمقراطية التنويرية، وتنامي وعي قبل وطني تقاطع مع فكر أحادي قروسطي.
ورغم تواري الجذر التاريخي للعنف المذهبي عن المخيال الاجتماعي، إلا أن المظاهر العنفية الجديدة تتخللها بعضٌ من تجلياته، وهذا يهدد باستنهاضه مجدداً، ويدلل أيضاً على أن الجذر التاريخي للعنف المذهبي ما زال كامناً في القاع الذهني للذات الاجتماعية والأنا الفردية.
إن جميع العوامل المذكورة ساهمت في زيادة حدة التناقض وانقسام المجتمع أفقياً وعمودياً وفق أشكال مختلفة ومتباينة: استقطاب سياسي بين معارض ومؤيد. بين معارض موضوعي عقلاني وآخر متطرف، بين مؤيد عقلاني وآخر متطرف. استقطاب سني شيعي، شيعي مؤيد وآخر معارض، استقطاب بين مسلم معتدل متنور وآخر جهادي تكفيري... إن كافة هذه التباينات والتناقضات تهدد وحدة المجتمع وثقافة التعايش والمشاركة، وتدلل على انفصال أدوات الصراع وحوامله الاجتماعية عن الواقع وعن جوهر الأزمة السورية.
وتزداد مخاطر الاستقطاب الاجتماعي نتيجة لاستنهاض العنف الكامن في الخطاب المذهبي الذي يحوّل التنويعات الاجتماعية إلى أدوات عنفية قهرية... في سياق يجري فيه تغييب وتجاهل الجذر السياسي والاقتصادي للأزمة. لذا فإن العقل الأحادي المحمول على قوة قهرية يمثل مدخلاً لممارسة العنف الأشد تخلفاً، لكونه يرتكز على معايير سياسية مذهبية جهوية عشائرية وطائفية تكفيرية ضيقة.
إضافة إلى ذلك، توجد عوامل سلبية عدة تنعكس على الصراع وتطيل أمده: غياب القوى السياسية الفاعلة ــ هيمنة السلطة الأمنية ــ طغيان سلطة الحزب الواحد ــ غياب لغة الحوارــ سيادة لغة الإنكار والرفض المتبادل ــ بروز مفهوم هدر الآخر لأسباب متنوعة وبأشكال وآليات متعددة ــ تداخل الخارج واستطالته على الداخل في سياق اشتغاله على تركيب مصالحه على الأزمة الداخلية التي تحولت نتيجة لأسباب متعددة إلى أزمة إقليمية ودولية بامتياز.
فإذا سلمنا بضرورة التغيير السياسي، فإن كثيراً من العوامل والقضايا الإيجابية يجب علينا التمسك بها والمحافظة عليها والدفاع عنها وتطويرها (الوحدة الوطنية في سياق التماسك والتعايش والتشارك الاجتماعي، الاعتراف بالآخر، اعتماد التغيير الديمقراطي كوسيلة وحيدة للخروج من الأزمة الراهنة، دور الدولة التنموي، توسيع دائرة الخدمات والإنفاق العام، المحافظة على القطاع العام وتطويره، مجانية التعليم والصحة، المؤسسات والمرافق العامة...). لكن يطفو على سطح وعي المعارضين الجدد، ميل إلى رفض كافة أشكال التواصل والحوار، وتجريم الموالين للنظام وتخوينهم ووصفهم بأحط الأوصاف، وحتى الصامتين الذين لم يلتحقوا بأحد أطراف الصراع لم يسلموا من الاتهامات... ويخلط هؤلاء المعارضون عموماً بين إسقاط السلطة وتهديم كيانية الدولة، فنراهم يبررون ممارسات تهدد عوامل قوة الدولة، دون دراية منهم بأن البنى التحتية والمؤسسات والقطاعات الخدمية هي ملك للشعب لا لشخص أو لفئة مسيطرة. إن جوهر الصراع ومقدماته الأساسية، ليسا بين الشعب والدولة، بل حراك من أجل التغيير الديمقراطي، أطرافه غالبية شعبية مهمشة ومفقّرة ومقموعة، وسلطة سياسية قهرية مارست القمع والنهب.
ويقابله في الطرف الآخر رفض شبه كامل لأي شكل من أشكال المعارضة طالما لا تندرج في إطار السلطة السائدة، أو أنها تختلف عنها، أو لا تتكيف مع توجهاتها السياسية والاقتصادية. بالتالي فإن المعارضة من هذا المنظور ومن قبل هذه الأطراف لا تتمتع بالوطنية، وأكثر من ذلك فإنها بنظر هؤلاء ومرتهنة وتابعة إلى القوى الدولية وتسعى إلى تدمير الدولة، وأنها تريد زج السوريين في حرب طائفية... دون النظر إلى التباين والتناقض بين مكونات المعارضة السورية، ومن حمل السلاح دفاعاً عن النفس، ومن يحمله لتنفيذ أجندة خارجية، وأطراف مسلحة في غالبيتها غير سورية، تحاول فرض ذاتها على السوريين بالقوة العنفية والقهرية من أجل تطبيق دولة الخلافة الإسلامية، وهؤلاء لا يربطهم رابط بالمعارضة السورية التي تطالب بالتغيير الوطني الديمقراطي. فالمعارضون من وجهة نظر هؤلاء، كتلة واحدة، فهم مجموعة من الفاسدين والمارقين والخونة والتكفيريين والمنحلين أخلاقياً. إن هذه المواقف تعيق أي تحول ديمقراطي، لكون وعي هذه الأطراف يقوم على إلغاء الآخر وتدميره.
وإذا كان المجتمع السوري يعاني سلطة أحادية قهرية قمعية وشمولية وهذا حقيقة، فإن بعض تجليات المعارضة الجديدة، ومن يقفون خلف السلطة يعانون تناقضات إشكالية تعود جذورها إلى ذات بنية السلطة، وهذا يضع المجتمع السوري رهينة لوعي إلغائي تدميري.
إن مظاهر هدر الآخر وجودياً لم تعد تحتاج إلى دلائل لإثباتها، لكن انتقالها من حيز التفكير إلى حقل الممارسة يحتاج إلى مراحل متعددة ومتراكبة تبدأ بــ: مقاطعة الآخر ـ نزع الصفات الإيجابية عنه، اتهامه بكل ما يحط من قدره وقيمته ـ نعته بكل التهم التي تفقده مبرر وجوده، تجريده من الوطنية الكرامة والأخلاق واتهامه بالفساد والخيانة والتكفير، تأليب المحيط الاجتماعي للوصول إلى عزله اجتماعياً وتخويف الآخرين من خطره وصولاً إلى شيطنته.
وإذا كنا نسلم بضرورة وجود المعارضة كونها عاملاً موضوعياً ومؤشر عافية للنظام والمجتمع، فإن ما يتجلى من تمظهرات سلبية ومتناقضة للمعارضة الجديدة، وكذلك لأشكال الموالاة التي تتصف بالتبعية والارتهان المطلق والدفاع الأعمى عن السلطة السائدة ورموزها يدلل على أن الطرفين منفصلان عن الواقع وعن أي جذر ثقافي مدني ديمقراطي. كذلك فإن آليات اشتغالهما لا تعبّر عن تفكير عقلاني ولا عن منهجية تحليلية، ويفتقدان العمق المعرفي والبعد الاستراتيجي، وهذا يدلل على السطحية والابتذال بكل ما للكلمة من معنى.
إن تزايد الميل إلى شيطنة وتكفير الآخر وصولاً إلى هدره يمثل مدخلاً لتفكيك تماسك النسيج الاجتماعي. فهذه الآليات من الوعي نتاج بنية معرفية وسياسية شمولية. أي إنها نتاج وعي سلطوي أحادي مأزوم. فهو بذلك وعي إشكالي غير قادر على إدراك الأزمة بأبعادها ومستوياتها المتراكبة كونه من تجليات ونتائج الأزمة.
لقد بات واضحاً أن استطالة الأزمة تهدد الذات السورية بمزيد من التفكك والتفتت. لأن اللغة التكفيرية والتخوينية تحولت إلى أحد الأشكال الأساسية للتعامل الاجتماعي، ويبدو هذا جلياً في العلاقة الحدية بين موالاة عمياء ومعارضات عصابية، وهذا يمثّل مدخلاً لنشوء وعي عنفي يعيد المجتمع إلى أحط مراحله تخلفاً، وقد يؤدي إلى تفككه وانهياره بحكم التداخل والتشابك الاجتماعي الذي يهدد في حال تأصل لغة العنف بدخول الكل في صراع ضد الكل.
وإذا لم تجد الأطراف الفاعلة سبيلاً لوقف العنف الذي بدأت مفاعيله تتفلت من كافة الضوابط العقلانية والأخلاقية، وإذا لم يتم العمل على تحقيق أهداف الشعب السوري، فإن المجتمع سيدخل في دوامة العنف والتصفيات الجماعية، لهذا نشدد على ضرورة التمسّك بثقافة التشارك والتعايش وقبول الآخر والحوار، كونه يضمن التماسك الاجتماعي، و يمثل مدخلاً للخروج من الأزمة، لأن الحل الحقيقي والنهائي هو بيد السوريين حتى لو كانت الدول الكبرى تمسك بخيوط اللعبة. إن اعتماد أطراف الصراع لغة وآليات هدر الآخر كيانياً، ينعكس على آليات تفكير واشتغال فئات واسعة من الشعب السوري، وهذا يؤدي إلى إغلاق أبواب الحل السياسي، ويبعد الحراك السوري عن أهدافه الأساسية، ويهدد بصراع شامل بين مكونات المجتمع. والخاسر الوحيد في هذا الصراع هو المواطن المفقّر والمقموع تاريخياً.
وهذا يستوجب من كافة القوى الفاعلة والمؤثرة والمشاركة في الصراع، العمل على إيقاف العنف، وإطلاق العملية السياسية التي تمثّل المدخل الوحيد للخروج من الأزمة، وتضع السوريين على عتبة تحول ديمقراطي.
* باحث وكاتب سوري