لا يملك المرء إلا الإعجاب بالتفاعلات الشعبيّة الكبرى التي تحصل في مصر الآن، وسواء تعلّق الأمر بمعارضي أو مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، ورغم الطابع المأساوي على الصعيد الإنسانيّ في ما يتعلق بسقوط ضحايا ومصابين، إلا أن تحوّل الناس في مصر خلال ثلاث سنوات من أناس مغيّبين بالكامل عن صنع القرار السياسيّ، مقموعين ومهيمن عليهم وغير مبالين إلا في حدود سير حياتهم اليوميّة دون منغّصات، إلى أناس ذوي سلطة سياسية حقيقية، أناس متفاعلين مع الأحداث وفاعلين بها، أناس ممارسين للسلطة، يتصاعد وعيهم السياسي بتسارع كبير يوماً بعد يوم، كما يتسارع وعيهم بقدرتهم على إحداث التغيير، ووعيهم بمركزية دورهم وأساسيّته في سياق الحكم والسلطة والسياسة. كل هذا يمثل تحوّلاً تاريخياً هامّاً وكبيراً، لا على المستوى المحليّ والعربيّ بل والعالميّ أيضاً، وما التظاهرات الشعبية العارمة في تركيا والبرازيل، وقبلها حركة «احتلوا» في الولايات المتحدة، إلا إشارات لمستقبلٍ تعود فيه «الجماهير» إلى السياسة بصفتها فواعل حقيقية، معيدةً الاعتبار إلى الديمقراطية التي مسختها الليبرالية إلى نموذجها «التفرُّجي» خلال القرنين الماضيين.ورغم هذا الإعجاب الذي رافق أيضاً الانتفاضة المصريّة الأولى (25 يناير 2011)، إلا أن ثمّة إشكاليات كبرى رافقت تلك الانتفاضة، وترافق الآن الانتفاضة الثانية (30 يونيو 2013)، على رأسها دور الجيش في هذه الانتفاضات، وتحالف القطاعات المدنيّة المعارضة معه في سياق محاولة الحصول على مكاسب في أقصر فترة ممكنة. وإن كان قِصَر فترة «التغيير» أمر إيجابي لجهة حصر الأضرار التي قد تنتج عن طول فترة الصراع، وتقليل فرص انفتاحه على إمكانيات التدخّل والتوظيف (الخارجي والداخليّ)، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن على التغيير أن يأتي في لمح البصر دائماً، فـ«لمح البصر» هذا يستدعي قوّة استثنائية، قوّة «انقلابيّة». وهذه القوّة ــ في الدول المعاصرة ــ لا تملكها إلا الجيوش والأجهزة الأمنية التي كانت هي العنصر الأوّل في الحفاظ على الأنظمة التي يُراد تغييرها، ومن المتعذّر غالباً أن تُفهم الدّوافع خلف هذه «التغيّرات الفجائية» في توجّهات العسكر، من ولائهم لنظامٍ حكم بالاضطهاد والقمع لعقود، إلى ولائهم للشعب الذي هو نفس الشعب الذي اضطهده وقمعه نفس النظام لعقود دون اعتراضٍ من نفس الجيش ونفس الأجهزة الأمنية، بل كان القمع بشراكةٍ معها في أغلب الأحيان.
في مصر، وبعد عام من حكم المجلس العسكري والفظائع التي ارتكبها بحقّ الثوّار (في شارع محمّد محمود، وخلال أحداث ماسبيرو مثلاً)، إضافة إلى ممارساته السلطوية الاحتكاريّة، خرج الشارع بشعار «يسقط حكم العسكر»، وهو استكمال منطقي لشعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، فحسني مبارك هو ابن المؤسسة العسكرية، مثله مثل كل رؤساء مصر في الحقبة الجمهوريّة الأولى، والعسكر هم جزء أساسي من النظام الذي انتفض الناس عليه، وعندما صوّت الناس لمحمّد مرسي في مواجهة الفريق أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية، كان واضحاً أن التصويت كان في مواجهة النظام السابق بكلّ أركانه كما يمثّله بتكثيف أحمد شفيق: العسكريّ السابق، وآخر رئيس وزراء لمبارك.
بعد الانتخابات الرئاسيّة، أُخذ الإخوان المسلمون بنشوة السُّلطة وسكرتها. لم يستوعبوا أن الفترات الانتقالية بعد الانتفاضات والثورات هي فتراتٌ تأسيسية تشاركيّة جمعيّة، تُصاغ فيها التوافقات الاجتماعيّة الكبرى في شكل عقد اجتماعيّ دستوريٍّ يضمن المساواة والعدالة للجميع دون استثناء، ويضمن أن تحافظ القيادة السياسيّة على المواطن السياسيّ الذي صار هو العلامة الأساسية بعد الانتفاضات العربيّة، وتعزّز شراكته في السلطة. بعد استتباب هذه الضمانات ورسوخها، تتنافس القوى السياسية والاجتماعية بمعنى «المغالبة»، فحينها، لا تُلغي المغالبة السياسية الانتخابية على مؤسسات الحُكم أساس المساواة القاعديّ الدستوري المستتب، ولا تُلغي المغالبةُ الحريّاتَ العامّة والعدالة الاجتماعية، وإلا فإن المواطن السياسيّ سيسعى بنفسه إلى استعادتها كما رأينا في 30 يونيو.
بعد قرابة القرن من التحضير لهذه اللحظة، سقط الإخوان المسلمون، ومعهم مشروع الإسلام السياسي، في سنة واحدة لا غير. لا تملك التأويلات الدينية حلولاً لعالمنا المعاصر، ولن يستطيع الدين أن يقدّم حلولاً «إلهية» اقتصادية واجتماعية وسياسية، بل بالعكس، شاهدنا السلفيين (الأكثر تشدّداً من الإخوان بالمعنى الدينيّ) ينضوون في أحزاب سياسيّة ويناقشون «الكفّار» العلمانيين وغير المؤمنين، ويتحدّثون عن «الدستور» و«الحريّات» و«العدالة الاجتماعية». وبينما تستعر «الطائفية» (الابنة الشرعيّة للاستعمار والأنظمة الاستبداديّة والتيّارات السياسية الدينية) وتتصاعد في غير مكان في المنطقة (لبنان، سوريا، العراق، البحرين). فقد صار واضحاً للناس أن الدولة الدينيّة (الطائفيّة بالضرورة)، أو الدولة التي يقودها الدّين السياسي (الطائفي بدوره)، لن تؤمّن الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعية لـ«مواطنيها»، مثلها مثل سابقتها، أي الدولة «القوميّة» الاستبداديّة. هذه نتيجة سنةٍ واحدةٍ من حكم الإخوان في مصر، نتيجةٌ لم يتوقّعها أشدّ المتفائلين في أن انتهازيّة الإخوان المسلمين ستنكشف للعموم في المستقبل المتوسّط أو البعيد، لكن الوعي الشّعبي المتصاعد منذ الانتفاضات العربيّة، لا ينفكّ يفاجئنا كلّ مرّة، ولكن...
كان بإمكان الانتفاضة الشعبية ضد محمّد مرسي أن تُسقطه دون الحاجة للجوء إلى الجيش. كان بإمكان الانتفاضة الشعبيّة أن تصعّد من فعالياتها إلى أن يتنحّى مرسي بنفسه كما تنحّى سلفه من قبل، فهو ليس أقوى منه، بل أضعف بكثير. عندها لم يكُن المجال ليُفتح أمام مقولات «الانقلاب العسكريّ» المحقّة في إحدى جزئيّاتها، أو أمام تحوّل الانتفاضة الثانية إلى أعمال عنف واسعة النطاق بين مؤيّدي مرسي (الحائز على الشرعية الانتخابيّة) وبين معارضيه (أصحاب الشرعيّة الثورية الأعلى شأناً). كان بإمكان الشرعية الثوريّة أن تُسقط الشرعيّة الانتخابية دون عسكر، لكن يبدو أن القوى السياسية المعارضة للإخوان مُستعجلة، والجيش مُستعجلٌ أكثر، والخسارة في النهاية هي للانتفاضة الثانية قبل أي شيء آخر، والمقامرة بتحوّلها إلى اقتتال داخليّ. عندها سينتقل الجيش مرّة ثانية إلى دور الحاكم الفعليّ بعد أن أدار اللعبة هذه المرّة بذكاء أكبر عبر إسناد الرئاسة إلى رئيس المجلس القضائي الأعلى، واضعاً في المقام الأول مؤسسة القضاء، ومؤسسة الرئاسة، وبقية المؤسسات السياسيّة المدنيّة ــ لا العسكر الذين يقبعون الآن في الخلفية ــ في مواجهة الإخوان.
الانتفاضة المصرية الأولى لم تُستكمل بحكم المجلس العسكري في البداية ومن ثم حكم الإخوان الاستحواذي الإقصائي، والانتفاضة المصريّة الثانية لم تُستكمل لأنها أُنهيت عبر إزاحة الرئيس المنتخب من قبل الجيش، واحتجازه حتى الآن خارج إطار القانون، وإغلاق القنوات الإعلاميّة الإخوانيّة، (وهذه كلّها علامات الانقلابات العسكريّة)، ولم تتم عبر استقالته أو تنحيه من تلقاء نفسه أمام الضغط الشعبي العارم، تلك الاستقالة التي كانت قادمة بلا شكّ لولا انتهازيّة القوى السياسية المعارضة لمرسي، وتدخّل الجيش. هل سيُجهِض هذا التدخّل التحرّكات الشعبيّة الثوريّة الكُبرى من خلال تحويلها إلى اقتتال داخلي يعود العسكر بواسطته إلى السلطة بشكل مباشر بدعوى الحفاظ على الأمن ووقف شلالات الدّم، وعندها يضمنون وجودهم فيها إلى وقت طويل بعد الانقسام الشعبي العمودي الذي أحدثوه في الشارع المصري؟ لننتظر ونرَ.
* كاتب أردني