سيكون من الصعب التكهن بحجم براغماتية «الإخوان المسلمين»، ولن يكون سهلاً، التقليل من خبرتهم الحركية والتنظيمية بدءاً من خطوط الدبلوماسية، وصولاً إلى رسم «خطوط الاهتزاز»، فالقاعدة، (وكان سيفر بلوتسكر قد فهمها بدّقة) تقول: «ليس مهمّاً كيف تصل إلى الحكم، بل المهم أن تغيّر صورة النظام، بحيث لا تخسر الحكم بعد ذلك أبداً». وإذا كان كلام بلوتسكر، مجرد افتراض حسب ما يمكن للإخوانيين القول، فسنة واحدة من الحكم في مصر كانت كافية للتأكيد أن «الإخوان» يبحثون عن المرشد، وقليلاً ما يعيرون انتباهاً لما دونه، ولا بد أن تكون الدولة «دون المرشد أو تحته». ومن يتابع شريطاً تداولته مواقع الانترنت، يظهر الرئيس مرسي في الموقع الثانوي، من بين مجموعة من الرؤوس الإخوانية، يعلم بالتمام والكمال، أن كلام بلوتسكر ليس رجماً في الغيب، ولن يكون مسموعاً في ما بعد قول الإخوانيين المأثور: نحن لم نصل إلى السلطة ولم تختبرنا مقاعدها. الإخوان وصلوا إلى السلطة، وهي المرّة الأولى التي ينالهم شرف قمة الدولة، والإخوان قادوا جزءاً أساسياً من المعارضات العربية، في سوريا، وتونس، ومصر، وليبيا، ومارسوا السلطة ما قبل السلطة، وما بات بحكم المؤكد، أقلّه في سوريا، أنهم: «لم ينصروا الثورة». فما كان ممكناً للسوري أن ينجزه، أعاقه «الإخوان» بتحالفهم مع الفصائل الإسلامية الراديكالية، وقد ذهب تحالفهم إلى الوقوع بفخ التسلح، أكثر الخيارات إيثاراً لدى النظام، وأقلّ الخيارات في احتمالات تحقيق الانتصار، وأوضح الطرق إلى إلغاء الناس، وإلغاء الناس قد أخذ مسارين: في المسار الأول، فإن الخطاب الإخواني قد انتزع من الشارع السوري خطابه الديموقراطي الوطني، وأزاح البلاد من احتمالات أن تكون الثورة حاضنة للجميع، فحقّق عزل ما لا يقل عن 30 % من مجموع السكان. ونعني هنا الطوائف والمذاهب غير السنية، بالإضافة إلى جزء كبير من الأكراد وذاكرتهم إزاء الإخوان ليست بالذاكرة العذبة، أقلّه لسبب قديم، وهو نصرتهم للراحل صدّام حسين، حين أمعن في مجازره بمواجهة الأكراد، ولسبب مستجد وهو اختيارهم اسطنبول، سريراً ومؤتمراً وبيت مال. هذا عداك عن الفئات والشرائح الوسطى، أقلّه في مدينتي حلب ودمشق، والشرائح الوسطى التي تحنّ إلى الدولة المدنية، لن تتدحرج طوعاً إلى الدولة الدينية، وهؤلاء لن يكونوا أقلّ من ربع السكان. وفي المسار الثاني، فالتنظيم العابر للدولة الوطنية، كان أكثر انسجاماً مع عقيدته، وليس تدويل المسألة السورية، سوى جزء من اللعبة، حملها الإخوان، وحصد ثمارها النظام، فالتدويل من هنا، يقابله تدويل من هناك، وكانت النتائج: كل من يدير سوريا، ليس سوريا باستثناء الموت. المصريون، وهم الأكثر خبرة من السوريين، أقله لوضوح ملامح المجتمع الأهلي، وللتاريخ الممتد في الدولة باعتبارها: «سلطة ــ مجتمع» كانوا أدركوا أن المشروع الإخواني يعني: ــ تغييب الدولة الوطنية لحساب الإمارة أو الخلافة. ــ إحلال ديكتاتورية العقيدة مكان ديكتاتورية الفساد. ــ تغييب مفهوم المواطنة لحساب مفهوم الرعية. كل ذلك، ولن يعوز «الإخوان» أن يكونوا بفساد مبارك، وبسطوة أنور السادات، وأن يرثوا، مجد السلطة ومكاسب الثورة، وكان على القوى الشبابية المصرية أن تسارع إلى إسقاط : «شرعية الدستور»، لحساب شرعية الحياة، وثمة سؤال كان بالوسع أن يتبادر إلى الكثير من التأملات ومفاد السؤال: لنتخيل كيف كان سيتطور التاريخ لو خرج في صيفٍ قبل ثمانين سنة 20 مليون ألماني إلى شوارع المدن يتظاهرون على النازيين، ولو طلبوا مصادرة الحكم من هتلر ولو أن الجيش الألماني استجاب لنداء الشعب وعزله واعتقل قادة حزبه. هذا السؤال، كانت «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية قد طرحته، وربما سيكون سؤالاً بالغ الجدية، لو توافقنا على قيمة (لو). وكلنا يعلم أن حركة التاريخ لا تدار بـ(لو)، تلك المفردة التي تمثل ثمار الأماني، دون النظر إلى شجرة الحياة. لو؟ لاستراحت الكرة الأرضية من حمل جثث (46) مليون قتيل. لوفرت عناء إعادة إعمار ملايين البيوت. لوفرت جرحاً نازفا للبشرية، سيرثه الأحياء عن أموات، ما زالت عظامهم تنضح بالسؤال. والسؤال: هل انقلب العسكر على الدستور؟ نعم انقلبوا، وحسناً فعلوا كي لا يقاد المصريون في مقبل الأيام إلى: «لو». وأية إجابة أخرى لن تكون سوى احتكام لتبريرات لغوية، ليست برصانة القانون ولا تعسفه، غير أن المصريين، أو القسم الأوسع من المصريين، وقد اختار ما اختاروا، كانوا على علم بأنه لو انقضّ جنرالات الرايخ على الفوهرر، لوفروا على البشرية الكثير من الدمار. الشعب المصري، سطا على الدستور... حسناً. الدساتير قد تكون علفاً... ألا يذكرنا هذا الكلام بمسرحية للماغوط، يستخلص فيها أن الدساتير قد تصلح علفاً للحمير.* روائي سوري