لم يسبق لبلدان ومجتمعات المشرق العربي (سوريا، العراق، الأردن، لبنان، فلسطين) أن واجهت تحدّيات وأخطار تمزيق نسيجها الثقافي والروحي التاريخي، مثلما يحدث اليوم، وذلك مع تصاعد النزعات والميول لاستخدام خطاب طائفي أو إثني في الصراع السياسي. وفي الواقع، لم تعد هذه الأخطار والتحديّات ذات طبيعة خارجية، كما هو الحال في مطالع القرن قبل الماضي؛ بل أضحت عاملاً داخلياً فاعلاً، يؤدي باستمرار إلى تفاقم أشكال الاستقطاب داخل المجتمعات المحلية على أساس الهويّة المذهبية والاثنية وحتى القبلية.
لقد كانت الأخطار والتحدّيات في الماضي، تتجلى في الضغوط التي مارستها الدول الاستعمارية لحمل وتشجيع الإثنيات والطوائف على تشكيل «دويلاتها».
ولعلّ الدعوات الشهيرة التي صدرت عن الفرنسيين والإنكليز في سوريا والعراق (منذ 1914) لإنشاء كيانات مذهبية، هي التجسيد العملي لهذه الأخطار.
اليوم، لم تعد هذه الدعوات مجرد «ضغوط خارجية» يمكن مواجهتها بإجراءات وتدابير تساعد على حماية الوحدة الداخلية. لقد باتت هي ذاتها عاملاً داخلياً. وذلك ما يفرض على النخب السياسية والفكرية في بلدان المشرق العربي بشكل أخصّ، الشروع في التأسيس لحطاب التلازم بين مهام النضال الديموقراطي ومهام الحفاظ على أسس التعايش التاريخي في هذه المجتمعات.
بكلام آخر، لم يعد مطلب الديموقراطية ممكناً أو مقبولاً من دون تلازمه مع مهام الحفاظ على أسس التعايش المجتمعي.
إن أخطر ما تواجهه مجتمعات المشرق العربي، هو تعاظم ميول العزلة والاستقطاب المذهبي والطائفي والإثني الداخلي. وما يثير الانتباه، أن أشكال هذا الاستقطاب لم تعد ذات طبيعة سياسية ثابتة، يمكن مواجهتها بخطاب سياسي مضاد؛ بل باتت تتخذ صوراً وأشكالاً ثقافية متفجّرة. وأكثر من ذلك، أن الصراع يتبدى لا كصراع سياسي من أجل التنمية والتغيير والديموقراطية والتحرر الوطني وفك شروط التبعية؛ بل كتنازع على التاريخ المشترك، ومحاولة انتزاع (جزء طائفي أو مذهبي) منه، وإعادة تنسيبه بالكامل لجماعة واحدة.
من المنظور التاريخي، تشكل هذه المجتمعات والبلدان، ما يمكن اعتباره «إيكولوجيا ثقافية» أي وحدة بيئيّة غنيّة ومتكاملة، تجعل منها لا مجرد إقليم جغرافي؛ بل فضاءً جغرافياً وثقافياً واحداً يضمّ مجتمعات متعدّدة، وتلعب فيها أنماط الطعام والزواج واللهجات الشعبية دوراً حاسماً في توطيد التقارب والتماثل. وما يجعل من هذه التحدّيات أخطاراً مباشرة وشاخصة وحقيقية، أن هذا النسيج آخذ ــ ويا للأسف ــ في الاستجابة لعوامل الهدم، بأكثر مما يبدو أنه يستجيب لعوامل المقاومة. إن تنامي الميول والنزعات المجتمعية لاستخدام خطاب طائفي أو إثني في الصراع من أجل تحقيق التغيير السياسي، يؤكد هذا المنحى الخطير.
لقد امتازت مجتمعات المشرق العربي بفرادة التنوع الإثني والثقافي والروحي. وكان ما يميزها كإقليم جغرافي واحد، أن هذا التنوع اتسم باستمرار بكونه عامل إغناء وإثراء للروح التاريخية. اليوم، يبدو هذا التنوع وكأنه آخذ في التآكل، والتحول إلى عامل إفقار وإضعاف لهذه الروح.
وقد لاحظ البيان الصادر عن «اللقاء المشرقي» أن المشرق العربي يشكل مجتمعاً تعددياً، و«أن المفاعيل السلبية لهذه التعددية تظهر في الأقطار المفردة في صورة أغلبيات وأقليات، يمكن استخدامها لتفجير هذه الأقطار داخلياً، وأن هذه التعددية تغدو عامل اغناء ووحدة وانسجام ديموقراطي، بالنظر إلى أن التكوينات التعددية على المستوى الكلي متوازنة الحضور والتأثير». وهذا صحيح تماماً، وهو يفرض على القادة السياسيين والثقافيين، الشروع الجدي في التأسيس لخطاب وحدوي جديد عابر للحساسيّات الثقافية، ويعالج إشكاليات التصادم الثقافي والروحي.
إن المعضلة التي سوف تواجه مجتمعات المشرق العربي خلال السنوات المقبلة، قد لا تكمن في ما يمكن اعتباره «صداماً ثقافياً» قابلاً للانتشار؛ بل في تحوّله إلى واجهة لسلسلة صراعات ما دون ثقافية تدفع مجتمعاتنا صوب البربرية، بأكثر ما تعدها بالديموقراطية.