تضاعفَ، أخيراً، طول المسافة التي تقطعها الطائرات الأردنية بين عمان وبيروت؛ وبدلاً من 55 دقيقة كانت تستغرقها الرحلة بين المدينتين، أصبحت تستغرق حوالى مئة دقيقة. وهذه واحدة من النتائج الجانبية، التي لا يعرفها كثيرون، للحرب المتعدّدة الجنسيات على سوريا. على أية حال، إذا كان العنف في سوريا هو السبب، حقّاً، في سلوك هذا الطريق الطويل، فإنّني لا أملك إلا أن أتساءل عن الطريق الذي يجب أن تسلكه الطائرات الأردنية بعد انتقال وباء العنف إلى سيناء. لقد قمنا بهذه الرحلة المطوّلة للمشاركة في «اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا». فتنقّلنا بين مدينتين كانتا حتّى أوائل القرن الماضي جزءاً من بلد واحد هو سوريا الطبيعية أو الكبرى، لنقوم بواجبنا في الدفاع عن سوريا الحالية المجتزأة؛ بل، أكثر من ذلك، لندافع عن جميع أشلاء بلاد الشام التي اتفق ممثِّلا الاستعمار الفرنسي والبريطاني (السيّدان سايكس وبيكو) على فصلها عن بعضها البعض وإقامة الحواجز السياسية العالية بينها. فبعد الحرب على سوريا لم تعد مشكلة هذه الأقطار تقتصر على قسمتها القديمة، بل أصبحت مهدّدة بالتعرض لقسمة استعمارية جديدة (سايكس بيكو – 2) أشدّ وطأة وأكثر تفتيتاً. وبالنسبة إلينا كأردنيين، أصبحت سوريا تبدو، خلال السنتين الماضيتين، كما لو أنّها في قارة أخرى بعيدة؛ لأنّ حجم الأوهام والتصوّرات المغلوطة حولها أصبح أكبر كثيراً من المعلومات الدقيقة والحقائق المثبتة. وبالمقابل، أصبحت الحدود الفاصلة بين لبنان وسوريا وبين الأردن وسوريا أكثر طراوة ممَّا كانت عليه في السابق؛ حيث راح المسلَّحون المتعدّدو الجنسيات، يتدفَّقون، من خلالها، إلى سوريا، فيما راح اللاجئون يتدفَّقون خارج سوريا، نحو الأردن ولبنان، على نحو خاصّ.
شارك في اللقاء مثقَّفون، وناشطون سياسيون يساريون وقوميّون تقدميون، ونقابيون، ومتقاعدون عسكريون، ونوّاب، وفنانون، من الأردن، ولبنان، وسوريا، وفلسطين المحتلَّة، والعراق، (وتونس). وفي مداخلة له في اللقاء، أبدى أحد المشاركين التونسيين، وهو من الجبهة الشعبية التي كان ينتمي إليها القيادي اليساري الشهيد شكري بلعيد، تحفظه على استخدام مفهوم «المشرق»، وقد بدا محقّاً في ذلك، برأي العديد من الحاضرين؛ فكيف للقاءٍ مشرقي أن يضم مشاركين من بلاد المغرب؟! غير أنّ اعتراض أخينا التونسي كان أبعد من ذلك وأعمق؛ فهو كان يفضّل أن يكون اللقاء عربياً جامعاً وليس مقتصراً على إقليم واحد من الأقاليم العربية، فيما تساءل أحد المشاركين (من سوريا)، عن عدم دعوة مشاركين من بلدان مشرقية أخرى كأرمينيا وأذربيجان وتركيا وإيران... إلخ؛ وخصوصاً أنّ مصطلح المشرق، كما هو متضمّنٌ في اسم اللقاء، هو المشرق على إطلاقه لا المشرق العربيّ بالتحديد. نعم، ربَّما كان يجب توضيح أيّ مشرق نقصد؛ وربَّما كان من الأدقّ أنْ نقول، بدلاً من ذلك: سوريا الطبيعيَّة (أو الكبرى) أو بلاد الشام أو الهلال الخصيب... إلخ؛ لكنني، في كل الأحوال، لست ممّن يميلون إلى الاعتقاد بأنّ التجمّعات العربية الجزئية (الإقليمية)، أو حتى بعض الروابط السياسية مع دول وشعوب الجوار الآسيوي أو الأفريقي، هي أمر يتناقض مع التوجّه للوحدة العربية الشاملة، بل إنَّها، برأيي، قد تكون، في بعض حالاتها، خطوةً مهمّة على طريق الوحدة العربية الطويل. فما الضير، إذاً، من أن يجري جانب من العمل العربي المشترك في إطار أقطار بلاد الشام أو سوريا الطبيعية أو الهلال الخصيب؟ وخصوصاً أنّ هذه الأقطار كانت، قبل أقل من قرن، بلداً واحداً، وقد جرى تفتيت ذلك البلد العربي الأساسي بمؤامرة استعمارية لئيمة، لكنني، في الوقت نفسه، لا أرى ضيراً في مشاركة بعض الأخوة المغاربة، أو سواهم من العرب، في منتديات وملتقيات مشرقية، أو شامية، أو سوريا...
نوقشت في اللقاء أوراقٌ عديدة بشأن الوضع في سوريا وسُبل الخروج الآمن والسليم منه، وبشأن مستقبل العلاقة المنشودة بين دول «المشرق» وشعوبه. وكان لافتاً أنَّ الوفد السوري ضمَّ ألواناً مختلفة من الطيف السياسي الوطني (المعارض والموالي)؛ الأمر الذي نجمتْ عنه نقاشاتٌ حيوية وشاملة ومفيدة.
بعد انتهاء أعمال المؤتمر، أخذَنا مضيفونا إلى الجنوب، حيث راح الطريق يصعد بنا عبر الجبال العالية المكسوة بالغابات الكثيفة، التي تتناثر فيها قرى صغيرة جميلة في سفوح الجبال وعلى أكتافها وقممها، وهي قرى كانت لسنين طويلة مسرحاً لأعمال المقاومة البطوليَّة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وعلى قمّة جبل «مليتا»، رحنا نعاين بانوراما المقاومة التي أقامها هناك حزب الله. رأينا الدبَّابات «الإسرائيليَّة المعطوبة ـــ ومن ضمنها دبّابة الميركافا، كما رأينا مدافع ورشاشات من مختلف الأنواع، وناقلات جند، وأسلحة وتجهيزات عسكرية مختلفة. ثم دخلنا نفقاً محفوراً في الجبل هو نموذجٌ لتلك الأنفاق التي كانت المقاومة تستخدمها لإخفاء مقاتليها وأسلحتها، ولرصد تحركات العدو والانطلاق لمقاتلته. باختصار، لقد تشرفت أقدامنا، عصر ذلك اليوم، بالسير على أرض مجيدة عزيزة روتها دماء الشهداء الأبطال. ولذلك، امتزجت نفوسنا بذرات الغيم المحمولة بأذرع الهواء، وانتشرت معها، وحلّقت، وحلّقت.