«ليس من المحتّم أن تبقى سوريا قطعة من الجمهورية العربية المتحدة، ولكن من المحتّم أن تبقى سوريا».
من خطاب جمال عبدالناصر غداة انفصال سوريا عن مصر


اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا الذي التأم في ضيافة دافئة لمضيف هادئ آثرَ الابتعاد عن الأضواء، اكتفى بإرسال إشارات خافتة لكن مرئية، أو رسائل نصية قصيرة لكن بليغة، إلى من يهمُّه الأمر:
الرسالة الأولى تقول إن بلدان المشرق العربي، كمجال جيو _ سياسي، مترابطة ومتداخلة ومتبادلة التأثير، وإن سياسة النأي بالنفس ما هي إلا بدعة كاذبة يدحضها الواقع بشكل قاطع، حيث لم يتوقف يوماً تدفق سيل الأسلحة والمقاتلين والأموال والأجهزة المتطورة وغيرها على سوريا مِن وعبْر الجارَين العربيّين اللذَين أعلنا النأي بالنفس أو الحيدة، أي لبنان والأردن. ولا تزال جحافل الإرهابيين والأفاقين القادمين من جهات الكوكب الأربع تدكُّ أرض سوريا بسنابك الخيل، فلماذا إذاً يُحرَّم على أصدقاء سوريا الحقيقيين، وفي مقدمتهم حزب الله، مساعدة سوريا، ولا سيما أن الحزب يعتبر نجدة سوريا واجباً وطنياً ودَيْناً أخلاقياً في عنقه وردّاً للجميل، وهو الذي لا يخذل أصدقاءه ولا يطعنهم في خاصرة مأمنهم، خلافاً للذين ألقوا في البئر التي شربوا منها أكواماً من الحجارة والقمامة. وتفيد الرسالة الثانية بأن المقاومة اللبنانية ستتمسك بحرية تحديد وتوسيع الرقعة الجغرافية التي ستبسط فوقها عملياتها القتالية، وتشمل كل الأراضي العربية المحتلة في لبنان وسوريا وفلسطين، وأن مزارع شبعا وهضبة الجولان والقدس جبهات متعددة في حرب واحدة مع العدو الصهيوني.
وبالمقابل، تحذِّر الرسالة الثالثة من أن الإمبرياليين والصهاينة والرجعيين النفطيين والعثمانيين الجدد وأعوانهم وأدواتهم من الإرهابيين الوهابيين جعلوا من القصير والضاحية الجنوبية وصيدا وطرابلس جبهات حرب إرهابية ضد المقاومة، الأمر الذي يحتّم عليها خوض معارك دفاعية عن الوجود خلف الحدود، حيث بات الدفاع عن مجدل شمس دفاعاً عن «مليتا» كرّم الله وجهها (لأنها المنطقة الوحيدة في الجنوب التي لم تسقط قط في قبضة جيش الاحتلال الصهيوني)، كي تبقى متحفاً طبيعياً لذاكرة المقاومة الأسطورية يحكي حكاية الأرض للسماء. وتشي الرسالة الرابعة بأن المعارضة الوطنية السلمية التي ترفض التدخل العسكري الإمبريالي وتدمير الدولة والجيش السوريين وتتمسك بوحدة التراب والتنوع ينبغي أن يكون لها كلمة في تقرير مستقبل بلدها وأن تكون شريكاً في مفاوضات ترمي إلى التوصل إلى تسوية سلمية تاريخية للصراع الذي يهدد بلدهم بالزوال.
بيد أن بريد اللقاء المشرقي حمل رسالة مشرقية خامسة إلى مصر والمغرب العربي، أظن أنها ستعود إلى المصدر بسبب خطأ في العنوان؛ إذ إن مصر الإخوانية هي التي ربما كانت في خلفية المشهد عند طرح الأفكار وإعداد الأوراق، حيث كان يبدو للجميع تقريباً أن المشروع الإخواني سيعيش عقوداً، ولكن مصر عبّرت عن نفسها مرة أخرى، وفجّر الشعب المصري المرحلة الثانية من ثورة 25 يناير، فأطاح، لا حكم الإخوان المسلمين في مصر فحسب، بل المشروع الإخواني الإقليمي وربما الدولي برمته.
لقد فهم بعض المشاركين أن اللقاء المشرقي يبعث برسالة انعزالية بشأن مصر وبلدان المغرب العربي، فإذا كانت سوريا «قلب العروبة النابض»، فإن مصر هي «أمّ العرب» التي تحتضن هذا القلب بين ضلوعها. ولنتذكَّر حديث عبد الناصر عن حرصه الشديد على سوريا وحبه الكبير لها في خطابه الشهير إلى الأمة غداة الانقلاب الانفصالي: «إنني أشعر في هذه اللحظات أنه ليس من المحتَّم أن تبقى سوريا قطعة من الجمهورية العربية المتحدة، ولكن من المحتم أن تبقى سوريا. إنني أشعر أن الذي يشغل بالي ليس هو أن أكون رئيساً للشعب العربي فى سوريا، ولكن الذي يشغل بالي هو أن «يكون» الشعب العربي فى سوريا وأن يُصان له كيانه...»
(5 تشرين الأول 1961).