قد يعود الفضل في استعمال مفهوم «الانفصام عن الواقع» في الربيع العربي، إلى قناة الجزيرة، حينما راحت في بداياته تلتقي بأطباء نفسيين كي يفسروا للمشاهد ما هي الأسباب النفسية التي تجعل هذا القائد أو ذاك يرفض الاعتراف بالواقع وبالثورة، التي تجري في شوارع مدنه. ينبغي القول إن تلك كانت خطوة ذكية، وخبيثة أيضاً، من هذه القناة ــ وغيرها من قنوات الربيع العربي ــ التي كانت آنذاك في ذروة النشوة، وهي تجذف القوارب بسلاسة في مجرى ربيع تدرك جيداً، وتسعى، إلى أن يكون أخضر بكل المقاييس الإسلامية.
لقد حاولت هذه القناة، وغيرها، أن تقنع المشاهد بكل السبل، بما في ذلك عبر الأطباء النفسيين، بأن القادة العرب، الذين انتهت مدة صلاحيتهم، ليسوا طغاة وحسب، بل منفصلون ومنفصمون عن الواقع. إنهم باختصار مجانين! ولعل القذافي كان خير مثال على ذلك الانفصام.
حسناً! إلى هنا، أقصد حتى تلك الأوقات، كان الأمر يبدو على درجة من المنطق؛ لأن الواقع معقد فعلاً، والإنسان العربي كان يملك كل الأسباب التي تدفعه إلى الثورة، والقادة، المنتهي الصلاحية، لا يدركون بالمقابل ولا يصدقون أن حلفاءهم التاريخيين ــ الغرب وأميركا تحديداً ــ يمكن أن يتخلوا عنهم بهذه البساطة والسهولة.
لم يكن وقتها يخطر ببال الإنسان العربي الذي خرج إلى الشارع رافعاً شعارات الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، إنما هو في حقيقة الأمر مجرد جندي مخلص مستعد للتضحية بروحه، لكن هذه التضحية لن تقود إلى تحقيق شعاراته هو، بل ستقود إلى تحقيق مخطط إسلامي رجعي إمبريالي.
آنذاك، كان يصعب تصديق أي من هذا الكلام الذي تكفل الزمن القصير بفضحه. لهذا كان المشاهد العربي يجلس أمام شاشة الجزيرة مصغياً إلى الأطباء النفسيين وضاحكاً ملء شدقيه من قادة يرفضون الاعتراف بواقع لا يجرؤ على إنكاره إلا المجانين.
لكن من تهكمات القدر وسخرياته الطريفة، أن الربيع ما إن هبّ على سوريا، حتى انقلبت الصورة: فلسوء حظّ الجزيرة، وأصحابها، ومن يعادي سوريا، من إسلاميين وليبراليين، لم نرَ جماهير حاشدة (ملايين) تجتاح الشوارع. رأينا تجمعات قليلة ــ هي ذاتها التجمعات التي كانت تبث الجزيرة مشاهد لها ــ وكي تقنع المشاهد بأنها حاشدة كانت الكاميرا تلتقط الصور من قلب التجمع ولا تجرؤ على الابتعاد عنه والتقاط الصورة عن بعد مسافة، تتيح رؤية الملايين المفترضة، كما كان يحلو لها أن تفعل في ميدان التحرير!
لن أشكك الآن بتلك التظاهرات التي كانت تبثها الجزيرة، وغيرها، ولا بزمانها ولا مكانها، الذي كنا نراه مكتوباً بخط اليد على كرتونة صغيرة توضع أمام الكاميرا... لن أشكك بهذه التظاهرات؛ لأن المواطن السوري مثله مثل أي مواطن عربي يملك أسباباً دامغة للثورة: فساد في السلطة وقمع للحريات، وسياسات اقتصادية ليبرالية انتهجتها السلطة في السنين الأخيرة أدت إلى إفقار الكثيرين وتجويعهم. إذن هناك أسباب واقعية دعت الكثيرين للخروج إلى الشارع في الأشهر القليلة الأولى، بيد أن هذه الأسباب سرعان ما بدت ثانوية أمام مخطط بدأت رائحته العفنة تفوح بسرعة شديدة: مخطط ثورة لا تهدف لا إلى محاربة الفساد وإلى تحقيق الديموقراطية عبر تكريس مجتمع مدني حر، ولا إلى العدالة الاجتماعية، بل تهدف إلى تدمير الدولة السورية وتدمير خطها المقاوم، وتقسيمها على أسس طائفية عبر تحويلها إلى إمارات سلفية ترفرف في فضائها الرايات السوداء. حينذاك، وما إن فاحت تلك الرائحة، حتى اختفت من الشوارع التجمعات والتظاهرات الصغيرة، وهذا بالفعل يحسب للمواطن السوري الذي عضّ على همومه وقرر الانحياز إلى دولته ووطنه، حينما بدأ يرى رجالاً بلحى طويلة ووجوه تبعث على الخوف، وأناس موتورين يحملون السلاح ويستجدون «الناتو» والغرب أن يتدخلوا ليساعدوهم على إسقاط النظام ــ وعلى الأدق ــ إسقاط الدولة.
أما في المدن التي عجز هؤلاء المسلحون عن الوصول إليها، فقد ظلت الشوارع هادئة، والحياة تمضي ــ ولسوء حظ الجزيرة ومن يقف وراءها، ومريديها في داخل وخارج سوريا من ليبراليين ويساريين مزيفين ــ من دون أي مظاهر احتجاجات أو ثورات، على الرغم مما مارسوه من تحريض وحشد وتمويل ورشوات!
وهنا بالذات تبدأ الطرافة وسخرية القدر، فالجزيرة وغيرها من المحطات، ومريديها المؤيدين لتلك «الثورة»، راحوا يرفضون الاعتراف بهذا الواقع والتعامل معه، وصاروا يتحدثون عن واقع آخر ليس له وجود على الأرض: عن ثورة متخيلة ومفترضة، وعن قمع لأناس مسالمين يخرجون يومياً للشوارع بمئات الآلاف، وعن قتل لأطفال أبرياء يعارضون النظام! الطريف أن القضية انفضحت بما لا يدع مجالاً للشك، وبات العالم كله يرى ــ إن كان لا يغلق عينيه ــ أن الأزمة في سوريا هي أبعد ما تكون قمعاً لمتظاهرين سلميين يطالبون بالحرية، من قبل نظام ديكتاتوري، بل هي صراع مسلح بين معارضة غالبيتها العظمى سلفية متطرفة ومرتزقة من جهة، وبين جيش نظامي يدافع عن أرضه ودولته من جهة أخرى، وأن لهذه الأزمة خلفيات إقليمية ودولية ومخططات.
قد نختلف أو نتفق في تحليل هذه الأزمة وأسبابها وأهدافها وارتباطها بالصراع العربي الإسرائيلي، لكن من المستحيل، إذا كنا نتوخى الموضوعية، أن ننفي أن هذه الأزمة اتخذت هذا الشكل من الصراع المسلح، وأن ننفي وجود مرتزقة سلفيين يرفعون الرايات السوداء! لقد بات هذا الصراع وداعمي أطرافه ومموليهم ومسلحيهم، واضحاً لدرجة يستحي فيها المرء ــ كي لا يعرض ذكاءه للحرج ــ أن يعلن أنه لا يراه ولا يفهمه. ومع ذلك لا يزال مؤيدو «الثورة» من ليبراليين ومدعي يسار عربي، أنّ الواقع غير ذلك، وأن ما يحدث في سوريا هو ثورة من أجل الديموقراطية والعدالة، وإذا ما ناقشتهم، فإنهم لا يعترفون بوجود تدخل خارجي، ولا مال خليجي، ولا أسلحة إسرائيلية وغير إسرائيلية، ولا يعترفون بوجود مسلحين سلفيين قدموا من كل أصقاع العالم (وتصبح القصير حسب كلامهم مدينة آمنة ومسالمة يسمع أهاليها فيروز ويحلمون بالحرية ويكتبون الشعر... فيما الجيش العربي السوري، المتوحش، يقصفها ويحاصرها ثم يجتاحها ويقتل أهلها: المساكين المدنيين المسالمين... وتصبح بنظرهم وبكلامهم، جثث السلفيين هي جثث أطفال أبرياء!) وهم لا يعترفون أيضاً بخطر الإسلام المتطرف، ولا بخطر القاعدة ــ أو الواقفة ــ ولا يصدقون أن هذه العصابات تقتل بوحشية وتقطع الرؤوس وتأكل قلوب الأحياء وتغتصب النساء وتمارس نكاح الجهاد! وبالطبع لا يعترفون بأن هذه العصابات لها مخططات وبرامج كفيلة ــ إن تحققت ــ بالقضاء على المستقبل العربي وتحويله إلى ماضٍ أسود يعيشه الناس في الحاضر! لا يعترفون بأي شيء من ذلك! ويصرون على الترويج لثورة، افتراضية، ليس لها وجود إلا في رؤوسهم!
بربكم، أي انفصام عن الواقع هذا؟!
أظن أننا بتنا فعلاً بحاجة إلى أطباء نفسيين كي يفسروا لنا هذا الانفصام المضحك، والمبكي في آن واحد، الذي يعاني منه مؤيدو «الثورة السورية المتخيلة» وإعلامهم... وربما نحن بحاجة إلى أطباء آخرين يستجيبون لإشكاليات الربيع العربي النفسية المستجدة: أطباء يفسرون لن ا كيف يمكن إنساناً أن يصر على التعامل مع واقع متخيل ليس قائماً، ومع ثورة افتراضية يتصورها في رأسه، ويقف أثناء ذلك، في صف سلفيين، معروفي ومفضوحي الارتباطات والأهداف، ويستميت في الدفاع عنهم، على اعتبار أنه منحاز ويدافع عن ثورة من أجل الحرية والديموقراطية والمدنية والعدالة والوطنية! ربما كان لكل شخص أسبابه في هذا الانفصام، أسباب تبدأ من السذاجة والعواطف والأحقاد، وتنتهي بالمصالح الشخصية والولاءات المدفوعة الثمن. لكن للأسف، كل هذه الأسباب والرغبات والافتراضات والخيالات والمصالح والعواطف، عاجزة تماماً، ولا تنفع ولم تنفع ولن تنفع في تجميل الواقع، وفي جعل صورة حقيقية لسلفي موجود على الأرض يأكل قلوب البشر ويمارس جهاد المناكحة، ويكفّر ويقتل كل من لا يتفق معه، ويتحدث في العلن عن مودته لإسرائيل، ويطلب في العلن من «الناتو» وأميركا أن يدمرا سوريا... أن تجعل صورته هي صورة غيفارا.
زودتوها كثير!
* روائية أردنية