ثمانية عشر يوماً مرت ما بين كتاب التكليف وكتاب الاستقالة. حكومة سلطة رام الله المحتلة التي حملت الرقم 15 برئاسة رامي الحمد الله كانت الأقصر عمراً بين مثيلاتها. فقد قدم رئيسها استقالة حكومته التي عقدت جلسة وحيدة في التاسع من الشهر الحالي. عصر الخميس 20 يونيو/ حزيران، بعث الحمد الله بكتاب استقالته بواسطة رئيس ديوان الرئاسة مبرراً خطوته بسبب «تضارب الصلاحيات».منذ اللحظات الأولى لتشكيل الحكومة، كان واضحاً أن رئيسها سيكون «بلا أنياب» بعدما مرر تعيين نائبين له، (الخبير الاقتصادي محمد مصطفى ووزير الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية زياد أبو عمرو) يحرصان على أن تكون الحكومة كما صرح محمود عباس «حكومتي أنا وملتزمة ببرنامجي أنا». خاصة، بعد التجربة التي عاشها رئيس السلطة مع سلام فياض. وبذلك يجدد عباس وسلطته مخالفة القانون الأساسي تحت بصر القوى السياسية المشتركة معه في اللجنة التنفيذية، إذ إن القانون الأساسي الفلسطيني ليس فيه مسمى نائب رئيس الوزراء، بينما تم إسناد المنصب في الحكومة الحالية لنائبين!
يبدو أن التوقيع على الاتفاقات الاقتصادية مع البنك الدولي كان الصاعق الذي فجر الأزمة وأخرجها للعلن بين الحمد الله ونائبه الاقتصادي. لكن عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية وأساليب مواجهتها ليست مرتبطة بهذا الرئيس أو ذلك الوزير، بل هي ممتدة إلى قضايا جوهرية حملها اتفاق أوسلو الكارثي وملحقاته، لا يعدو وجود سلطة وحكومات «مسحوبة الصلاحيات» سوى أحد تجلياته. جاءت الأزمة السريعة بين مؤسستي «الرئاسة والحكومة» بعدما عاشت الحكومة الجديدة مباشرة بعد تشكلها، أياماً صعبة في مواجهة الحركة الشعبية، خصوصاً أن تلك الحكومة كانت قد أصدرت عدة قوانين، منها إقرار رفع نسبة ضريبة القيمة المضافة، الذي سيؤدي لارتفاع جديد في تكاليف الحياة اليومية، في المحروقات وأجور النقل والكهرباء والمواد التموينية والعلاج الصحي والأدوية، وهو ما عبّرت عنه تظاهرات الاحتجاج التي شهدتها مدن نابلس ورام الله والخليل في الأسبوع الأول من عمر الحكومة القصير.
حاولت مؤسسة الرئاسة معالجة أمر الاستقالة من خلال مندوبين ــ أحدهما مسؤول أمني بارز ــ زارا الحمد الله في منزله ببلدة عنبتا. هذه المحاولة ترتبط بمجموعة عوامل داخلية، في الضفة، وفي مقابلة سلطة غزة، التي تعاني من أزمات عديدة تشهدها بيانات وصرخات الاحتجاج من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ظل «حمسنة» المجتمع. لكن الدافع الأساسي في رغبة الرئاسة أن يسحب الحمد الله استقالته، هو الموعد القريب لزيارة جون كيري للمنطقة بهدف إعادة «الثقة المفقودة» بين طرفي الصراع، في محاولة لإعادة الروح إلى جثة المفاوضات، بهدف جلب حكومتي العدو والسلطة، لطاولة الحوار والاتفاق، عبر مشاركة الحكومة الأردنية.
إن الشعب الفلسطيني وهو يتابع المسرحية العبثية المسماة «صراع السلطة والحكومة»، يعرف بحكم خبرته التاريخية المعمدة بدماء شهدائه ومعاناة أسراه وهدم بيوته وتهجيره من مدنه وقراه، وبعسف الاحتلال وقوانينه الفاشية، أن الخطر الذي يهدد وجوده المادي ليس الصراع الوهمي على صلاحيات سرابية بين سلطة وحكومة، أو بين حكومتين في ظل الاحتلال. لأن المفقود أساساً هو الحرية، التي ستكون السيادة الوطنية أحد مرتكزاتها. ولهذا فإن أي موقف انتظاري يراهن على سحب الاستقالة أو تكليف شخص آخر بتأليف حكومة جديدة، أو وضع حدّ لـ«الالتباس المُقنّع»، في تحمل رئيس السلطة مهمة رئاسة الحكومة المقبلة، سيكون ملهاة جديدة، تحاول أخذ شعبنا إلى حالة من الرهان على السراب.
إن تطورات الأوضاع الداخلية المحتقنة داخل الضفة، بفعل الأزمة الوطنية ــ فقدان البرنامج الكفاحي وأداته الموحدة/ الائتلافية لمواجهة الاحتلال والغزو ــ وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحادة وصراع الديكة على فتات الوليمة/ الصلاحيات، هو الذي ساعد على توليد حركات جماهيرية جذرية في مواجهة تردي الأوضاع الداخلية، وعسف الأجهزة القمعية التي تبتلع ثلث الميزانية. إن أشكال الحراك الجديد «فلسطينيون من أجل الكرامة» و«يا فلسطيني تمرّد» هي الإبداعات الخلاقة، لجيل يعاني من القمع والفساد والتهميش والبطالة، ومن تكلس وتآكل أشكال تنظيمية/ سياسية لم تعد تمتلك القدرة على إحياء المقاومة والمشروع التحرري وإدامة الاشتباك مع العدو، بل إن بعضها يسوق للسلام ــ الاستسلام ــ السياسي عبر بوابة التنسيق الأمني أو المشاركة الاقتصادية.
إنه جيل يعرف أن صراعه الأساس مع الاحتلال وإفرازاته المحلية. وأن النصر تصنعه المقاومة المسلحة والجماهيرية، لا سياسة التنازلات التي يلتزمها السماسرة السياسيون والاقتصاديون.
* كاتب فلسطيني