ليس سراً أنّه منذ إقامة إسرائيل على أنقاض الشعب العربيّ الفلسطينيّ في النكبة المشؤومة عام 1948، تُحاول المؤسسات الأمنيّة والسياسيّة في الدولة العبريّة ترويض وتدجين الأقليّة الفلسطينيّة في الداخل، مجيّرةً جميع الوسائل لتحقيق مخططاتها اللئيمة، والهادفة أولاً وأخيراً إلى سلخنا عن أمّتنا العربيّة وعن شعبنا الفلسطينيّ. ولا تألو المؤسسة الإسرائيليّة، على جميع أذرعها، جهداً في استخدام الترهيب تارةً، والترغيب مرّة أخرى، وتُطلق العنان لأجهزة الظلام، أيْ جهاز الأمن العام (الشاباك الإسرائيليّ) وإخوانه، لإخراج هذه المخططات إلى حيّز التنفيذ، طبعاً بمساعدة العملاء العرب الذين باعوا ضميرهم ووجدانهم من أجل حفنة من المال أوْ وظيفة هنا أوْ هناك. وبالمناسبة، إسرائيل هي شاباك يملك دولة، وليست دولة تملك شاباك، على الرغم من ادّعائها الكاذب، والذي لا ينطلي على أحد بأنّها الديموقراطيّة الوحيدة في صحراء الديكتاتوريّات العربيّة، ذلك أنّ هذه الدولة التي تصرف حوالى نصف ميزانيتها (48 بالمائة) على الأمن، هي دولة بجميع عنصرييها، وجميع فاشييها، وجميع قنّاصيها، وبالديموقراطيّة التي يتمتّع بها اليهود في هذه الدولة، تنكفئ عندما يصل الأمر إلى أصحاب الأرض الأصلانيين، أيْ نحن، من كنّا هنا قبلهم، وسنبقى هنا إلى أبد الآبدين.
■ ■ ■


ولا نكشف سراً نووياً إذا جزمنا بأنّ سياسة الحكومات المتعاقبة في هذه الدولة تعتمد على مبدأ فرّق تسُد، في كلّ ما يتعلّق بفلسطينيي الداخل، وترفض جملةً وتفصيلاً الاعتراف بنا كأقلّية قوميّة، لأنّ الحركة الاستعماريّة، الصهيونيّة، التي أقامت هذه الدولة عبر تسويق روايتها الكاذبة بأنّ فلسطين هي أرض بل شعب لشعب لا أرض، تنتهج سياسة خبيثة ترتكز على اعتبارنا عائلات وقبائل وطوائف ومذاهب، وما إلى ذلك من صفات لتقسيم المُقسّم وتجزئة المجزأ، ولكن. نقولها بحذرٍ شديدٍ، إنّ الباحث الصهيونيّ، د. هيلل كوهين في كتابه (العرب الجيّدون)، والذي اعتمد فيه على أرشيف جيش الاحتلال جزم قائلاً إنّ محاولات الشاباك الإسرائيليّ في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي لأسرلة عرب الداخل، أوْ بالأحرى صهينتهم، باءت بالفشل، واصطدمت بصخرة الانتماء إلى الأمّة العربيّة والشعب الفلسطينيّ، وهذا الاعتراف الصهيونيّ، شبه الرسميّ، يؤكّد لكلّ من في رأسه عينان، على أنّ فلسطينيي الداخل، الذين كانوا يعيشون تحت كنف الحكم العسكريّ، حتى العام 1966، رفضوا جميع أشكال التطبيع مع الدولة التي شرّدت السواد الأعظم من الشعب الفلسطينيّ وارتكبت المجازر القذرة والبشعة لتحقيق هذا الهدف.

■ ■ ■


وفي هذه الأيام يطلّ علينا من حيث لا ندري الكاهن المغمور، جبرائيل ندّاف، ويُنظّم مع عددٍ من الشخصيات الاعتباريّة لدى المؤسسة الصهيونيّة اجتماعات ومؤتمرات تهدف إلى فتح الطريق أمام المسيحيين العرب للانخراط في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، هذه الخطوة المُدانة وطنياً وأخلاقياً من قبل الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا في مناطق الـ48 هي خطوة خطيرة للغاية، ونخشى من تداعياتها وتبعاتها، لأنّ التنسيق والتعاون بين المؤسسة وبين موبقاتها وزبانيتها من العرب تحمل في طيّاتها أبعاداً خطيرة جداً، وقبل الخوض في سبر غور هذه الظاهرة، وهي بالمناسبة ليست الأولى، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّه وفق القانون الإسرائيليّ، فإنّ كلّ مواطن يبلغ من العمر 18 عاماً، ملزم بالانخراط في جيش الاحتلال، والسؤال الذي يُطرح في هذه العجالة: لماذا لم تُطبّق دولة الاحتلال هذا القانون في الماضي، ولماذا لم تُفعّله في الحاضر؟ وأيضاً: لماذا تلجأ إلى الأساليب المخابراتيّة التي أكل الدهر عليها وشرب من أجل تجنيد العرب المسيحيين في الجيش الإسرائيليّ ليقوموا بقتل إخوانهم العرب والفلسطينيين؟ نميل إلى الترجيح بأنّ هذه المبادرة على خطورتها، لا تتعدى كونها محاولة بائسة ويائسة من قبل حكّام دولة الاحتلال لسلخ العرب المسيحيين عن الشعب الفلسطينيّ، تماشياً مع المخطط الإمبرياليّ ــ الصهيونيّ لخلق شرق أوسط جديد، تعُم فيه الفوضى الخلّاقة، المبنية على افتعال نزاعات طائفيّة ومذهبيّة وإثنيّة لتكريس سياسة استدخال الهزيمة لدى أمّة الناطقين بالضاد، بكلماتٍ أخرى، لا يُمكن قراءة هذه الخطوة، بمعزلٍ عن الأحداث العاصفة التي يعيشها الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، لا يُمكن لباحث أوْ محلل أنْ يعزل إعادة تشغيل المحرك الطائفيّ والمذهبيّ من قبل إسرائيل في هذه الفترة بمعزل عمّا يدور في الوطن العربيّ، وخاصّة في المشرق والجزيرة. وإذا وضعنا في الاعتبار أنّ هذه المنطقة هي فسيفساء مذهبيّة وطائفيّة منذ ألفي عام، فلماذا تنفجر بكل هذا التخلّف والوحشيةّ اليوم؟ بل مَنْ هو الطرف الذي لا يتعاطى مع هذه المنطقة إلا من باب الأديان، التقسيم الدينيّ والتقسيم داخل الدين الواحد؟ إنه الرأسماليات الغربيّة التي بدأت ذلك منذ 1860 حيث أشعلت المذابح بين الموارنة والدروز. ثم جاء الاستعمار الغربيّ المباشر الذي أصرّ على قراءة المنطقة دينياً ليس فقط عبر سياساته بل حتى في الأكاديمية. ومع ذلك لا تكمن المشكلة في أهداف العدو، بل تكمن في ثمنه من توظيف الكثيرين في مجتمعاتنا كما يريد. وهذا تحديداً ما يُشجّع إسرائيل على تشغيل هذا المحرك داخل الأرض المحتلّة ما دام تشغيله ــ وبكل وحشيّة ــ حاصلاً في سوريا والعراق وبتحريك خليجيّ.

■ ■ ■


قبل سنوات عدّة، قام رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق، مجرم الحرب أرييل شارون، بزيارةٍ إلى مدينة الناصرة، وعقد اجتماعاً مع شخصيات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة من فلسطينيي الداخل، اعتلى المنصة وبدأ بالتحدث، في حين كان المئات من أبناء شعبنا يتظاهرون خارج القاعة، التي تحوّلت إلى ثكنة عسكريّة، يخطب بلهجةٍ استعلائيّة، بحزمٍ وبصرامةٍ وأطلق مقولته المشهورة، ولكنّها ليست المأثورة: اخدموا في الجيش تحصلوا على المساواة، الحقوق مقابل الواجبات. شارون، الذي ارتكب المجازر بحقّ الشعب الفلسطينيّ من قبية وحتى صبرا وشاتيلا، نسي أوْ تناسى أنّه في دولةٍ تزعم أنّها ديموقراطيّة ليبراليّة لا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال ربط الحقوق بالواجبات، ولكنّ إسرائيل المارقة بامتياز، والتي لم تُنفّذ منذ إقامتها في العام 1948 وحتى اليوم، أكثر من ستين قراراً صادراً عن مجلس الأمن الدوليّ، تؤمن بأنّه يحّق لها ما لا يحّق لغيرها، وأقطابها يُحاولون عبر الطرق الالتفافيّة الخبيثة تهديد العرب الفلسطينيين في الداخل، للتملّص من الاستحقاقات مثل منحهم الحقوق، التي نصّت عليها وثيقة استقلالهم، واللافت أنّه مع مرور السنوات باتت العنصريّة، أوْ التمييز العنصريّ ضدّ العرب من قبل المؤسسة الحاكمة، القاعدة وليس الاستثناء، فعلى سبيل الذكر لا الحصر، شاهدت في مدينة إيلات الجنوبيّة إعلاناً عن: مطلوبة للعمل في حانوت للألبسة الداخليّة شابّة، شريطة أنْ تكون قد أدّت الخدمة العسكريّة، والسؤال ما علاقة الألبسة الداخليّة على جميع أنواعها بالمحافظة على أمن هذه الدولة؟ ليس لديّ أيّ جواب، سوى أنّ العنصريّة، التي قامت السلطات الإسرائيليّة بمأسستها بمنهجيّة انتقلت إلى الشعب، بحيث باتت العنصريّة رياضة وطنيّة يُمارسها الإسرائيليون ببراعة يُحسدون عليها، فضلاً عن أنّ الكنيست تحوّلت إلى هيئة لتشريع وقوننة الأيديولوجيات المتطرّفة، التي تسعى إلى تضييق الحيّز، الضيّق أصلاً، على فلسطينيي الداخل. فهذه القوانين العنصريّة، ستقود الدولة العبريّة، عاجلاً أمْ آجلاً إلى دولة فصل عنصريّ (أبرتهايد)، وهذا ما حذّر منه سفير جنوب أفريقيا السابق في إسرائيل، الذي رفض الحصول على جائزة إسرائيليّة، مشدداً على أنّ سياسة إسرائيل ضدّ الفلسطينيين لا تختلف بالمرّة عن سياسة الأبرتهايد التي كانت سائدة في دولته إبّان حكم الأقليّة البيضاء. ومن المؤسف حقاً أنْ تبحث عن الصدق في عصر الخيانة، وتبحث عن الحب في قلوب جبانة، ذلك أنّ مدينة (الروابي) التي تُقام من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربيّة المحتلّة وافقت على تسلّم الجائزة.

■ ■ ■


والشيء بالشيء يذكر: أبناء الطائفة المعروفية في البلاد فُرض عليهم التجنيد الإجباريّ منذ إقامة إسرائيل، وما زال الشباب الدروز يخدمون في جيش الاحتلال، على الرغم من أنّ نسبة الرافضين للخدمة في جيش الاحتلال ترتفع بوتيرةٍ عاليةٍ من منطلقات عقائديّة وأخرى دينيّة، وعلى الرغم من أنّ أبناء هذه الطائفة طبّقوا المقولة التي طبعها شارون، وخدموا في جيش الاحتلال، إلا أنّ السؤال الذي يبقى مفتوحاً هو: هل تحسّنت ظروفهم المعيشيّة؟ هل تحوّلت قراهم وبلداتهم إلى ما يُشبه البلدات اليهوديّة؟ الجواب على هذين السؤالين سلبيّ، إنْ لم يكن أكثر، ذلك أنّ الشاب الدرزي بعد إنهائه الخدمة العسكريّة، يعود إلى بلده ليجد أنّ شيئاً لم يتغيّر، كما أنّ فرص العمل لديهم شبه معدومة، ونسبة البطالة في القرى العربيّة الدرزيّة لا تختلف كثيراً عن نسبة البطالة في القرى العربيّة الفلسطينيّة. بكلماتٍ أخرى، الشاب العربيّ الدرزي، الذي يُنهي الخدمة العسكريّة يعود بعد ذلك، بحسب المؤسسة الإسرائيليّة، إلى خانة العرب، الذين تُمارس ضدّهم العنصريّة على جميع أشكالها. من هنا نقول ونفصل ونجزم بأنّ ادعاء حكّام إسرائيل واجبات مقابل الحقوق، هي فرية أوْ كذبة يسوقونها للتخلّص من منح المواطن العربيّ ما يستحقه حسب القانون.

■ ■ ■


خلاصة الكلام: القيادات العربيّة في الداخل الفلسطينيّ، على مختلف مشاربها، مُلزمة بتصعيد النضال القانونيّ لتفويت الفرصة على المؤسسة الإسرائيليّة بتفتيت المجتمع العربيّ في مناطق الـ48، والإثبات لهم أنّ ما فشلوا في تحقيقه في الستينيات من القرن الماضي، مصيره سيكون مزبلة التاريخ. وربّما يُسمح لنا هذا بالقول، ما دام كل العرب الصادقين والكاذبين يزعمون أنّ المعركة الأساسيّة هي من أجل فلسطين، فالأجدر أنْ يعرف الفلسطينيون هذا، وأنْ ينشغلوا في نضالهم الداخليّ ضد سياسات إسرائيل، بدل أن يتناكفوا مع أوْ ضدّ الإشكالات العربيّة، لأنّهم يفعلون شيئاً هنا، ولا يؤثروا قطعاً هناك.
* كاتب من فلسطينيي 48