عشية مؤتمر «جنيف 2» الذي تحوّل تحضيره إلى طبخة بحص، يأمل بعض المراقبين الـ«على نياتهم» أن تتم تسوية النزاع على طريقة «لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم». ولكن حتى هذه الطريقة ستكون على حساب «الغنم السوري». وسوريا، جيشاً وشعباً، وأخيراً نظاماً، ومعها روسيا، لن ترضى بأن تتنازل عن مصالحها القومية والتاريخية والجغرافية، وأن تعامل كـ«قطيع غنم» عليه، بالجملة أو بالمفرق، بالنقدي أو بالتقسيط، أن يرضي رغبات الذئب الأميركي وخلفه «أعرابه» وإسرائيلييه و«عثمانييه».وبالمناسبة، لا يزال بعض اليساريين السابقين (من أمثال جورج صبرا) يريدوننا أن نصدق بأن المعركة في سوريا هي من أجل الديموقراطية!
نحن في لبنان نعلم علم اليقين، وبالتجربة المريرة، أنّ النظام السوري تميّز بأنه نظام فردي ديكتاتوري مخابراتي وفاسد، وهذا بالضبط ما جعل «الحيط السوري واطي» أمام المؤامرة الإمبريالية العالمية على سوريا، وجعل النظام السوري غير قادر على حسم المعركة في بضعة أيام، وسحق جميع العملاء الداخليين والخارجيين.
ولكن أن يقول لنا الأستاذ صبرا أو الأستاذ كريم مروة أو النائب السابق (الشيوعي) إلياس عطا الله، وكل من لف لفّهم، إنّ أميركا وإسرائيل وتركيا والسعودية ومشيخة قطر ومملكة البحرين وتنظيم «القاعدة» و«جبهة النصرة»، الذين سرقوا آلاف المعامل في منطقة حلب ونقلوها إلى تركيا، والذين ما دخلوا قرية أو بلدة إلا أذلوا أهاليها واغتصبوا نساءها («شرعاً» بطبيعة الحال) ونهبوا محالّها وبيوتها، يريدون الديموقراطية. فإنّ علينا أن نسألهم: إذا كانت هذه هي ديموقراطيتكم، فما هي الوحشية والبربرية والهمجية؟!
فإذا تجاوزنا هذه الديماغوجية المفضوحة والمخجلة حول الديموقراطية الكاذبة، فإن السبب الجوهري الرئيسي للحرب على سوريا هو الصراع الأميركي المستميت للسيطرة على مكامن النفط والغاز المكتشف في شرقي البحر الأبيض المتوسط، أي سوريا وما حولها، وذلك من أجل استمرار الهيمنة الاقتصادية والسياسية العالمية للدولار الأميركي ولأميركا.
ولننظر في ذلك عن قرب: في 22 تموز 1944، أي عشية نهاية الحرب العالمية الثانية، عقد قرب واشنطن ما يسمى مؤتمر «بريتون وودز»، الذي حضره 730 رئيساً ووزيراً ومديراً وخبيراً من 44 دولة، وأقر فيه رسم الخريطة السياسية للعالم بعد نهاية الحرب، وفيه تقرر إنشاء المؤسسات العالمية الملحقة والتابعة لأميركا: الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وفي هذا المؤتمر، فرضت أميركا على دول العالم الاعتراف بالدولار بوصفه العملة الدولية الرئيسية بموازاة الذهب. ولما كانت الحكومة الأميركية في عهد فرانكلين روزفلت قد ألغت التغطية الذهبية للدولار منذ ما قبل الحرب، فقد تعهدت الحكومة الأميركية أمام المؤتمر بأنها تضمن معادلة: كل أونصة ذهب تساوي 35 دولاراً ورقياً عليه توقيعها.
فعلام اعتمدت الحكومة الأميركية لتقديم هذا التعهد أمام دول العالم؟
اعتمدت على عاملين: الأول، اتفاقية يالطا: ففي 11 شباط 1945 عقد مؤتمر يالطا على البحر الأسود في الاتحاد السوفياتي، الذي وقعت فيه اتفاقية لتقاسم النفوذ العالمي، أي عملياً تسليم كل العالم (ما عدا الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية حينذاك) للزعامة الأميركية. وخرج روزفلت من يالطا وهو يحمل وثيقة موقعة من خائن الشيوعية الأكبر يوسف ستالين بتفويض أميركا بالسيادة على العالم بأسره. (ولبعض الذين يتساءلون: كيف نتهم ستالين بخيانة الشيوعية؟ نقول: عشية الحرب، أعدم ستالين 6 مارشالات من هيئة الأركان السوفياتية، و35 ألف ضابط في الجيش السوفياتي، وترك الحدود السوفياتية بدون تحصينات، ما أتاح للجيش النازي أن يجتاح ملايين الكيلومترات المربعة من الأراضي السوفياتية. وبعدما هبّ الشعب الروسي العظيم ومعه الشعوب السوفياتية الأخرى وقضى على الوحش النازي، تحول الخائن ستالين من «حليف» فعلي لهتلر، إلى «صديق» مكشوف لروزفلت وأعطاه اتفاقية يالطا للسيطرة على العالم). والعامل الثاني هو الحلف النفطي الأميركي _ السعودي: ففي 14 شباط 1945، طار روزفلت من يالطا مباشرة إلى مصر، واجتمع في البحيرات المرة في قناة السويس على متن السفينة الحربية الأميركية «كوينسي» مع الملك السعودي عبد العزيز آل سعود، واتفق معه على أن لا «يشغل باله» بمتاعب استخراج النفط وتصنيعه وتسويقه، وأنّ أميركا «صديقة العرب والمسلمين» ستتولى القيام بهذه المتاعب، وستدفع للعائلة السعودية حقوقها من «الخراج» النفطي، تبعاً لأحوال السوق. والطرف الأميركي هو الذي يقرّر أسعار النفط الخام وعائدات العائلة السعودية منه. وطرح في وقتها «سعر أميركي» يدفع للعائلة السعودية يتراوح بين 2 و3 دولارات لبرميل النفط الخام. وإذا قمنا بعملية حسابية بسيطة، وقسمنا سعر أونصة الذهب كما حددتها حينذاك أميركا اعتباطياً وتعسفاً (35 دولاراً للأونصة) على سعر برميل النفط الذي تقبضه العائلة السعودية (2 إلى 3 دولارات للبرميل) تكون النتيجة: 12 إلى 18 برميل نفط مقابل أونصة الذهب.
وإذا قمنا في هذه اللحظة، أو قبل سنة، أو قبل عشرات السنين بقسمة سعر أونصة الذهب على سعر برميل النفط، سنكتشف (بدهشة أو بدون أي دهشة) أن أونصة الذهب تتراوح فعلاً بين 12 و18 برميل نفط، بالرغم من كل تقلبات سعر صرف الدولار، وأسعار النفط والذهب.
وهذا يعني ـــ بكلام آخر ـــ أن أميركا (وهي دولة براغماتية بامتياز) قد استبدلت التغطية الذهبية للدولار بالتغطية النفطية (أساساً السعودية والخليجية) للدولار.
وهذا هو المدلول العملي لرضوخ مختلف دول العالم للسيادة الأميركية (بفعل اتفاقية يالطا) ولتحويل الدولار إلى العملة العالمية الأولى (بفعل اتفاقية روزفلت ـــ عبد العزيز).
وتحويل الدولار إلى العملة العالمية الأولى يعني أن أميركا صار بإمكانها أن تطبع دولارات ورقية ليس بمقدار حاجة الدورة المالية الأميركية، بل بمقدار حاجة الدورة المالية العالمية. وبالتالي صار بإمكانها أن تسرق كل العالم بطباعة عملتها الورقية. فإذا كانت الدورة المالية العالمية تحتاج ما بين 50 و100 تريليون دولار مثلاً، فإنّ العصابة الرأسمالية في «فيديرال ريزرف» (الذي ينوب عن البنك المركزي الأميركي) تطبع 60 إلى 120 تريليون دولار، أي تسرق العالم بمقدار 10 إلى 20 تريليون دولار، أي ما يساوي الناتج الداخلي القائم الأميركي كله. ولكن مهلاً: عيب! كيف نسمي هذا سرقة؟
إنها «دموقراطية». أليس كذلك يا أستاذ جورج صبرا، ويا أستاذ جريس الهامس، ويا أستاذ فؤاد النمري!
ولنعد الى معركة سوريا، ما علاقة كل ذلك بالمعركة هناك؟
المسألة بسيطة وواضحة وضوح الشمس: إذا بدأ استخراج النفط والغاز من شرقي المتوسط (سوريا وما حولها) بوجود الأسطول النووي الروسي في سوريا، وبوجود الصواريخ الإيرانية القادرة على إغلاق مضيق هرمز في أي لحظة، وبوجود صواريخ حزب الله في لبنان، فهل ستسلّم سوريا ولبنان وحتى قبرص استخراج النفط والغاز لأميركا كما سلمها عبد العزيز النفط السعودي والخليجي؟ وهل ستبيع سوريا ولبنان وقبرص حتماً نفطها وغازها بالدولار الأميركي؟ أم ستعتمد سياسة اقتصادية جديدة وتبيع النفط والغاز بالليرة السورية والليرة اللبنانية وبالروبل الروسي وبغيره من عملات الدول كالهند والصين والبرازيل. إذا خسرت أميركا وجبهتها المعركة في سوريا، فإنها لن تكون قادرة على أن تفرض استمرار اعتبار الدولار العملة الدولية الرئيسية.
وإذا سقط اعتبار الدولار كعملة دولية رئيسية، فإن آلاف تريليونات الدولارات الورقية التي طبعتها أميركا وسرقت بها العالم سترتد إليها، وستسحق الاقتصاد والمجتمع الأميركي في أيام، وستنفجر الولايات المتحدة من الداخل.
أمام هذا الخطر «الداخلي»، فإن أميركا تفضّل ألف مرة الحرب «الخارجية». ولكن بوجهها الآن تقف روسيا العظيمة. لا ستالين الخائن الديماغوجي، ولا يلتسين الخائن السكير المتهتك. بل روسيا الروسية. روسيا الشعب الروسي. والروسي يمكن أن يقامر وأن يغامر وأن يخسر أي شيء، إلا سيفه. إلا الحرب.
أميركا اليوم تقف أمام الحساب العسير. ولكن هي قادرة على التراجع، وعلى مراجعة حساباتها، وتجنب المصير القاتم الذي ينتظرها، ولو إلى حين. وذلك عن طريق التوصل إلى تسوية دولية مع روسيا وحلفائها.
وأول ما يمكن أن تفعله هو التخلي عن «حلفائها». ولكن هؤلاء «الحلفاء» يدركون أنّ هذه هي فرصتهم الأخيرة، ولذلك فهم سيزايدون على أميركا وإسرائيل ذاتها ويستميتون لإثبات وجودهم على الساحة، ولجرّ أميركا عبثاً إلى المعركة.
* كاتب لبناني