لا يختلف اثنان، من المطّلعين على مسار نظام ذوو عون ومسيرته، غير المشرّفة، منذ اختلاقه في دوائر مكتب المستعمرات البريطاني في الاسكندرية، على أنه من الصعب حقاً العثور على أي طرف عربي يمكنه منافسة العدو الصهيوني على طمس القضية الوطنية والقومية الفلسطينية وشعب فلسطين المظلوم، سواه. وقد تعرضنا لبعض تجلياته بالاختصار المفيد، في مقالات سابقة. فهو يمكنه التفاخر بأنه قدم لكيان العدو الصهيوني خدمات جليلة، ما جعله يستحق فعلاً تكريم العدو الصهيوني لصاحب الجلالة ملك البلاد المفدى بوضع طلعته البهية على طابع بريد، إضافة طبعاً إلى سهر الليالي على حمايته ومملكته الكرتونية الكاريكاتورية من «مؤامرات» القوى الثورية الوطنية/ القومية.وهذا يقودنا إلى كلام باطل يراد به باطل، أي مقولة الهوية الأردنية الأصيلة وما يتبعها من شعارات غوغائية من ضرب: الأردن أولاً، والتي لا يمكن أن تعني في نهاية المطاف غير إسرائيل أولاً.
لن نتوقف كثيراً عند مسألة الهوية الأردنية لأنها، على سخافة المقولة، تسقط في أول امتحان. فالتشكيلة القبيلية والعشيرية لا تصنع شعوباً ولا أقواماً، بالمعنى الواسع للمفردات والمصطلحات. عندما يكون ولاء الشخص، فردياً وجمعياً، للعشيرة والقبيلة والحي والمنطقة وما إلى ذلك، ينتفي أهم مقومات التشكل الوطني. هذه مسألة معروفة في العلوم الاجتماعية، وها نحن نراها تتجلى بأقبح صورها وأكثرها بشاعة وإيلاماً في ليبيا وغيرها، والأردن ليس ببعيد عن هذا الوضع.
ما يخص مسألة الهوية الأردنية المستقلة، كائنة ما كانت، أود العودة إلى حواري مع رفيق الدرب نزيه أبو نضال في كتابه الأخير. لقد احتل نظام عمان «حصته» من خيانة فلسطين وأمتنا العربية، وفق مؤامرة حرب 1948، ونفذ المهمة التي أقيم من أجلها وهي طمس الشخصية الفلسطينية الوطنية، بصفتها هوية نضالية وليس جغرافية. وهكذا استحال الفلسطينيون، جزئياً، ونظرياً طبعاً، مواطنين أردنيين، وتحديداً «شرق أردنيون». هذا من منظور قانوني.
الآن، ثمة مسألتان بالعلاقة من المستحيل فهمهما، وهما كيف يمكن لمواطن دولة ما أن يحمل تبعية (جنسية) بلد ما، وفي الوقت نفسه يكون لاجئاً فيها! هذا ما حصل للفلسطينيين الذين بقوا في بيوتهم، وفق مؤامرة عام 1948 بين أنظمة سايكس/ بيكو العربية من جهة، والدول الغربية الاستعمارية من جهة أخرى. نعم، وجد في «العائلة الأردنية الواحدة» على ضفتي نهر الأردن لاجئون، في مخيمات مثل شنللر قرب عمان والبقعة على طريق الغور _ عمان، وعقبة جبر قرب أريحا... إلخ. لكن سكانها كانوا مواطنين، كاملي المواطنة، من الناحية القانونية، تماماً مثل سكان المدن في عمان والقدس ونابلس وإربد والخليل... وانطلاقاً من هذه الحقيقة، فمن غير الممكن فهم سبب عدّهم لاجئين في بلادهم التي أجبروا على الانتماء إليها، من المنظور القانوني. ومن غير المفهوم دعوة هؤلاء إلى الامتناع عن الانخراط في العمل السياسي في الأردن، بوصفهم فلسطينيين، لكن مواطنين «العائلة الأردنية الواحدة» كاملي حقوق المواطنة [هذا إن تمتع أي من مواطني مملكة ذوو عون بأي حقوق أصلاً].
الدعوات التي تقف وراء لغو الشخصية الأردنية عنصرية بامتياز لأنها تطالب الفلسطيني بالتخلي عن انتمائه الوطني، بالمعنى النضالي، والتحول إلى «شرق أردني» أصيل! هو في الواقع غير موجود أصلاً، لدى البداة بسبب غياب الوعي الوطني أو القومي. يمكن أن نستثني من هذا عشائر «شرق أردنية» (مسيحية) مستقرة منذ أقدم الأزمنة في غور الأردن، حيث تعمل في الأرض، وهي تتميز بشعور قومي عربي قوي.
الحقيقة تتجلى في الحاضنة الاجتماعية لنظام عمان الذي يعتمد في وجوده المادي على ولاء عشيري قبلي، حيث يشكل البداة ذراعه العسكرية المتمثلة في قوات البادية، والمخابرات التي تعتمد على نحو رئيس على «الأقليات»... إلخ. نظام عمان يرتعب من الجيش النظامي لأنه يتشكل من سكان المدن، ومن الفلسطينيين في المقام الأول.
هل على المواطن الفلسطيني من التبعية الأردنية التخلي عن جذوره والتحول إلى انتماء غير موجود أصلاً كي يستحق مباركة الانخراط في العمل السياسي والاعتراف به مواطناً؟ أي منطق هذا! سوى الصادر عن عقليات عنصرية لا ترى موقعاً لها إلا بإبعاد الآخر ونفي وجوده، من منظور عقدة النقص، لكن الغربال لا يحجب الشمس.
لماذا لا يحق للمواطن الفلسطيني من حملة التبعية الأردنية، وهي تبعية قانونية لا غير، الانصهار، كما هو، في العمل السياسي في «شرق الأردن»، وصولاً إلى أعلى منصب فيها، بل وحتى العمل على استبدال نظام وطني قومي بالنظام الحالي القروسطي المتخلف! لا شيء يشرح هذا سوى العنصرية في أبشع تجلياتها، وتعبير عن عقدة النقص التي يعانيها كثر عند ذكر كلمة فلسطيني. هذه النقطة التي لم تبحثها الحركة الوطنية الفلسطينية في السبعينيات، ما أدى إلى فوضى مواقفها بالخصوص والتي ساهمت إلى حد كبير في الهزيمة الكبرى عام 70/1971.
أنا الفلسطيني، حامل التبعية الأردنية منذ ولادتي قبل أكثر من ستين عاماً، لا يحق لي الانخراط في العمل السياسي في الأردن، إلا إذا استبدلت الولاء العشيري، الذي لا أعرفه أصلاً، بالانتماء الوطني والقومي. أيّ كلام هذا، وأي منطق! أليست هذه دعوة لإجبار الفلسطينيين على التخلي عن وطنهم، وبالتالي الانخراط في مشروع الوطن البديل وتصفية القضية القومية المركزية!
الفلسطينيون لا يعانون مشاعر نقص إقليمية ومناطقية. فقائد الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة «شرق أردني»، ونضال القوى القومية لم يكن ضد انتمائه الإقليمي أو الديني، بل ضد خطه السياسي التسووي المهادن للعدو، ولم يعترض أحد على قائد الجبهة الديموقراطية العسكري أبي ليلى لأنه عراقي، بل أكثرنا لم يكن يكترث بمعرفة ذلك. والراحل الكبير جورج حبش لم يحبه شعب فلسطين لأنه كان مسيحياً، بل لأنه مثل الطهارة الثورية وعمق الانتماء القومي العربي، والقائمة تطول وتطول وتطول.
أما التحريض المستمر ضد فلسطينيي الأردن وتوجيه مختلف التهم الباطلة بحقهم، فسيقود حتماً الى استباحة الدم الفلسطيني، وتعريض شعبنا هناك للظلم ذاته الذي لحق بهم في العراق بعد الغزو الاستعماري الأميركي، وفي ليبيا عقب الغزو الناتوي، وكان لحق بهم في الكويت من قبل. وإذا سال دم شعبنا في شرق الأردن بحاراً، فالمسؤولية تقع في المقام الأول على الأبواق الإقليمية المحرضة التي تعاني عقدة نقص كونها «شرق أردنية»، والتي جعلت من الدفاع عن نظام عمان المتصهين مهمتها الأولى... والوحيدة.
لتكن رؤيتنا النضالية واضحة: إن النضال من أجل استعادة حقوقنا الوطنية/ القومية في بلادنا، فلسطين، لا بد من أن يرتبط بالنضال لقطع أذرع الصهيونية الأخطبوطية في بلادنا، مهما كانت أبجدية لغتها، وهذا هو جوهر العمل القومي النضالي المشترك. ففلسطين توحّدنا في هدف سامٍ. ولا شرعية لثورة شعارها ليس فلسطين.
* كاتب فلسطيني