عمق مصر الاستراتيجي في الجنوب ينهار في تفتّت السودان إلى جنوب زرعت فيه إسرائيل سفارتها لتأكيد سيطرتها على قراره السياسي، ثم إلى دارفور وكردفان لتكتمل صورة التفتّت والشرذمة لعمق مصر الجنوبي. في الجنوب الشرقي، تتبجح اثيوبيا، أيضاً بدعم من إسرائيل بحرمان مصر من حصتها من مياه النيل لتسبب خراب الزراعة وهلاك ملايين المزارعين جوعاً وعطشاً.
في ليبيا، عمق مصر الاستراتيجي، من جهة الغرب، ومصدر عمل لملايين المصريين، تتصارع جميع الدول على تسليح الليبيين واستهداف أي محاولة لتأسيس جيش ليبي أو حتى قوى أمنية داخلية، الهدف كما وضح تفتيت ليبيا بين شرق وغرب وبين شمال وجنوب وبين القبائل نفسها في كل منطقة، تيارات سلفية من كل لون تضخ مئات الشباب في زهرة عمرهم إلى «الجهاد» في ليبيا، وليس لتأسيس الديمقراطية بعد التخلص من «الديكتاتور» كما قال قادة حلف الناتو.
أما في شمال شرق مصر فنشاهد المأساة الملهاة، يُضخ في سوريا آلاف «الجهاديين» من كل حدب وصوب للتخلص من «الديكتاتور»، وتأسيس الديمقراطية مرة أخرى على الطريقة الليبية. وقبل ذلك تمزق العراق ليفقد أكثر من ثلاثة ملايين مصري عملهم بين ليلة وضحاها. وأخيراً تشاهد إسرائيل في الشمال من مصر المشهد لتكمل الطوق الذي يهدد العمق الاستراتيجي المصري بكل أبعاده جنوباً، شمالاً، شرقاً وغرباً.
أما مصر الرسمية، فتشاهد الموقف ببلاهة وتبلد وكأن ما يقع من حولها هو في بلاد «الواق واق». أمام هذا الخطر الاستراتيجي والوجودي المحدق، والذي قد يؤثر على بقاء مصر دولة واحدة، ويؤثر على حياة شعبها غذاءً وماءً، ويؤثر على نماء شعبها بحرمان ملايينه من العمل في دول الجوار تفتق ذهن رئيس مصر عن ضرورة حشد القدرات وتأجيج المشاعر ليس دفاعاً عن عمق مصر الاستراتيجي في الجنوب ولا عن عمقها في الغرب ولكن عن عمق مصر الاستراتيجي الأساسي في شمال شرق ليقوم رئيس مصر، وليس مصر، بتحريض ودفع شباب مصر وزهور مستقبلها إلى أتون حرب تسعى لتفتيت وشرذمة سوريا. هذا البلد الذي كان السند والمعين في كل حروب مصر دفاعاً عن أمنها وأمن العرب. اكتشف رئيس مصر الحالي فجأة أن الخطر الداهم «الاستراتيجي» على مصر الآن هو تهديد الدين المتمثل في «الخطر الشيعي» ليتحول في موقفه المعلن سابقاً من ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وعلى عدم التدخل الأجنبي. ليحرّض على هذا التدخل بطلب منطقة حظر جوي وذلك في سبيل الدفاع عن «الدين». كما ويحرّض علناً مئات الآلاف من الشباب للدفاع عن «الدين» في سوريا. فجأة اكتشف رئيس مصر أن «أهل السنة» في خطر، وليس عمق مصر الاستراتيجي «المخوزق» من كل جهة. هل دعوة الرئيس هذه لصالح مصر ولصالح عمقها الاستراتيجي في المحيط من كل جانب، أم هي دعوة من تنظيم الاخوان، الذي يتضح الآن أنّ قرارات قيادته معجونة بمال النفط والزيت ومرهونة مسبقاً للسيد الأميركي وصنيعته إسرائيل؟ هل الزج بشباب مصر وبمستقبلها في أتون حرب، أصبح علناً وعلى رؤوس الأشهاد تقودها الولايات المتحدة ووسطاؤها الاقليميون في المنطقة وخاصة دول الزيت، هو ما سيحقق العيش والكرامة والحرية لهؤلاء الشباب مستقبلاً أم هو زج بهم للتهلكة وصرف الأنظار عن الخطر الحقيقي المحدق بأمنهم ومستقبلهم من كل جانب؟ ألا يعي رئيس مصر أن جزءاً مما يحدث في المنطقة هو بهدف تطويق مصر لكي لا تقوم لها قائمة في المنطقة لأجيال مقبلة.
أمام هذا المشهد المأساوي والدامي للقلوب، مشهد مئات آلاف الشباب المتجمعين في ستاد القاهرة لسوقهم إلى حتفهم، كالقطيع المخدر، في بلد هو بكل المعايير كان النصير الأول في كل لحظات قوة مصر وازدهارها. هل كل هذا الحشد وكل الأرواح التي ستزهق هي لترسيخ الديمقراطية في سوريا، وماذا عن الديمقراطية في دول الخليج التي تدفع لقتل كل شباب المنطقة ليبقى أصحاب العروش والكروش في أماكنهم. ألا تستحق شعوبهم أيضاً الديمقراطية؟ وماذا عن القدس التي ذكرها الرئيس في خطابه، أليس الأجدى تعبئة وتحريك الدعوة للجهاد لتحريرها أولاً، أليست أسبق على «القضية السورية» ومشاريع تهويد القدس لا تتوقف ساعة من الزمن، أليس الأسرع بالنجدة هنا مدينة أصبح نسبة سكانها اليهود للعرب 1 عربي إلى 13 يهودي في شطري القدس، وتحاصر بالمستوطنات كالسوار في المعصم من كل جانب. وأين هي دعوة التحريض والتعبئة لحماية النيل، أين هي الدعوة لملايين الشباب من المصريين للتوطن والزراعة والعمل في حوض وادي النيل، وهي الدعوة التي أطلقتها السودان للمصريين في أكثر من مناسبة.
أمام هذا المشهد المأساة الملهاة، أين عقول مصر من الاستراتيجيين؟ أين سياسيو مصر الحريصون على أمنها القومي؟ أين رجال الأزهر الشرفاء لوقف هذا الرياء والنفاق، الذي ينقط منه زيت الخليج، باسم الدين لسوق شباب مصر ومستقبلها إلى معارك وهمية ستجلب الحزن والألم لبيوت المصريين عند عودة أحبائهم في نعوش؟ من يوقف سطوة الزيت والنفط على سوْق مصر لهلاكها؟
* أكاديمية مصرية