تأتي اتهامات النائب والقيادي في التحالف الوطني «الشيعي»، أحمد الجلبي، لقيادة إقليم كردستان العراق، في ذروة التدهور الأمني الخطير والمستمر في بغداد ومحافظات أخرى منذ عدة أيام بـ«التناغم مع الإرهاب وإيواء الإرهابيين وعوائلهم وأرصدتهم المالية في الإقليم ومصارفه»، لتخلط الأوراق مزيداً من الخلط وتضع علامة استفهام كبيرة على مستقبل العلاقة بين بغداد وأربيل. ومع الأخذ في الاعتبار ضعف صدقية الطرف الذي أطلق هذه الاتهامات، فهو المحكوم غيابياً من قبل محكمة أردنية بالسجن لأكثر من عشرين عاماً على خلفية اتهامات بالفساد المالي والاختلاس، ولكونه في الوقت نفسه حليفاً وصديقاً سابقاً لأوساط محافظة في «الكونغرس» والمخابرات الأميركية وللزعامات الكردية، مع أخذ كل ذلك بالاعتبار، فإن الواقع يبين لنا اليوم أن العلاقة بين بغداد وأربيل دخلت فعلاً في منعطف جديد نوعياً، ولم يعد بالإمكان النظر إلى الأمور والظواهر والأشخاص والمؤسسات في كلا الطرفين بالطريقة القديمة ذاتها. كذلك، لا يمكن تكذيب هذا الخبر جملة وتفصيلاً بعد أنباء وشائعات راجت عن إقامة عزت الدوري، زعيم حزب البعث، ومنظماته المسلحة في إحدى مدن الإقليم بشكل سري، وجاءت البرقية العلنية التي وجهها الدوري إلى رئيس الإقليم مسعود البارزاني معزياً إياه بوفاة شقيقه قبل أسابيع قليلة لتمنح هذه الأخبار شيئاً من الجدية. هذه التطورات دفعت وتدفع الأطراف المعنية بالموضوع والباحثين المستقلين الراصدين للوضع والعلاقات إلى مراجعة وتحليل شكل العلاقات وآفاقها الممكنة، وصولاً إلى طرح تطورات جديد تتلاءم والحالة الجديدة التي بلغها الوضع العراقي.ومع ذلك، يبدو أغلب الساسة وأفراد النخبة في العراق كأنهم لا يريدون أن يصدقوا حقيقة وجود دولة كردية في شمال العراق، يقترب عمرها الآن من ربع قرن (تأسست سنة 1991)، لها برلمانها وحكومتها ورئيسها وجيشها وعلمها ودستورها وضرائبها وتعليمها... إلخ. إنها دولة أمر واقع، قد يقال، ولكن ذلك لا يقلل من حقيقة أنها دولة كاملة لا ينقصها إلا جوازات السفر والمقعد الرسمي في الأمم المتحدة! والسؤال المهم هو لماذا تتردد القيادات الكردية في إعلان الاستقلال التام والانفصال عن العراق؟ هل هي خائفة من بغداد؟ قطعاً لا. فلبغداد مصائبها المستمرة والمتفاقمة، ولكنه خوف هو من رد الفعل الإيراني والتركي ومن العصا الأميركية التي لا تريد تعقيد اللعبة في الوقت الحاضر على الأقل. هذا الرأي ليس استنتاجاً محتملاً، بل هو رأي عبر عنه الرئيس الكردي جلال الطالباني حين قال قبل مرضه الأخير إن «الاستقلال الكردي شبه مستحيل وإنه سيبقى كأحلام وصبوات تخص الشعراء؛ لأن إعلان الاستقلال الكردي سيقابله على الفور إغلاق الحدود حول الإقليم حتى يتم وأد التجربة». والطالباني لا يبدو هنا بعيداً عن الحقيقة الجغراسياسية، رغم المبالغات والتقلبات التي عرفت بها أحكامه وآراؤه.
سبب آخر يفسر لنا إحجام القيادات الكردية عن إعلان الانفصال ويتعلق بالحصة الكبيرة التي تحصل عليها منذ تشكيل حكومة إياد علاوي في 28 حزيران 2004 وحتى اليوم والبالغة 17% من الميزانية العراقية، التي قاربت هذه السنة مبلغاً إجمالياً هو 120 مليار دولار، إضافة إلى إيرادات الإقليم من البيع المباشر للنفط الخام والمشتقات لدول الجوار وعائدات الضرائب والجمارك، التي ترفض تسليمها للمركز الاتحادي، رغم أن النسبة السكانية لسكان الإقليم لا تتجاوز 13%. إن هذه الحصة ستذهب أدراج الرياح في حالة الانفصال المفروض والمقرر من جانب واحد. يضاعف من قوة هذا السبب وتأثيره ما أكدته الدراسات العلمية الحديثة من أن «كردستان العراق» حتى لو سيطرت على نفط الإقليم كله، مضافاً إليه – افتراضاً شبه مستحيل – نفط كركوك كله، فلن تصل إيراداتها إلى ما تحصل عليه الآن! هذا هو أحد الأسرار، أو الأسباب التي تفسر لنا إحجام الزعامات الكردية عن إعلان استقلال إقليمها.
إن ما يجري الحديث عنه هنا من ألاعيب ومناورات سياسية واتهامات واتهامات أمنية مضادة لا علاقة له بالمستوى العقيدي أو القانوني في النظر إلى قضية تحرر الأمة الكردية، فأن يكون للأمة الكردية، كسائر أمم الكوكب، دولتها القومية، وتتمتع بحقها في تقرير المصير بالشكل الذي يجري التوصل إليه مع الشريك الجغرافي والتاريخي، فهذا أمر لا يتعارض مع المبادئ والقوانين والقيم الديموقراطية والإنسانية، ولكن أنْ تكون هناك شبه دولة، يسمونها إقليماً، وهي في واقع الحال دولة كاملة وحقيقية، فإن حصة الـ 17% من موازنة العراقية التي تأخذها تغدو مجرد «خُوّة» أو جزية مفروضة لقاء استمرار اعترافها الشكلي بأنها جزء من العراق! هنا يمكن طرح السؤال المؤجل حتى الآن: لماذا لا نبحث عن حل سلمي ومتوازن ينهي هذا الوضع الشاذ وغير الطبيعي بما يحفظ مصالح وطموحات عرب العراق وأكراده وسائر مكوناته القومية؟ كونفدرالية مثلاً؟ انفصال بالتراضي؟ شيء آخر يتفتق عنه الذهن الجمعي لنخب العراق؟
إن الدفاع عن شكل الدولة المتحدة «الكونفدرالية» والترويج له هو مجرد اعتراف بواقع قائم، فما هو موجود اليوم في العراق، والذي يعتبره الدستور النافذ دولة اتحادية «فدرالية» تضم أقاليم ومحافظات هو في الواقع اتحاد بين دولتين أو دولة متحدة ومؤلفة من جزأين هما العراق وكردستان.
إن العُقَد والخطوط العريضة التي ينبغي تفحصها تحليلياً ضمن هذا الموضوع عديدة ومتشابكة، ولكننا سنكتفي بعقدتين نحسبهما الأكثر أهمية، وهما: قضية كركوك، التي بحلها ينحلّ أكثر من نصف تعقيدات الموضوع وقضية كيفية الخروج من المأزق الحالي نحو طريق الحل بعد تحديد الهدف.
لنبدأ بالعقدة الثانية، وهي إجرائية وذات جانب إرادوي أيضاً، فمتى تم الاتفاق على أن من العبث الاستمرار في الوضع المعلق الحالي وأن من المفيد لجميع مكونات العراق المجتمعية البحث عن حل واقعي ومتى ما تم الاتفاق على أن الحل هو في الدولة الموحدة «الكونفدرالية» والمكونة من جزأين، عراقي وكردستاني، فإن البحث عن السبيل التطبيقي يكون هيناً، وربما أمكن تحقيقه من طريق مؤتمر وطني عام تحت إشراف السلطات الثلاث في الدولة الاتحادية القائمة اليوم، وباشتراك قيادة الإقليم يتمخض هذا المؤتمر عن مسودة دستور عراقي جديد وتشكيل مجلس اتحادي مشترك من الكيانين العراقي والكردستاني يشرف على قيادة الدولة الموحدة وبناء مؤسساتها. إن هذا الحل الواقعي والمتوازن سيثير حتماً ردود أفعال حادة من قبل المتطرفين من الجانبين، ولكنه سيوفر حتماً على العراقيين المزيد من الآلام والمآسي التي سيأتي بها الحل المفرد والمفروض بالقوة من طرف واحد والذي سيجلب معه ويلات كثيرة وهائلة مرت بها شعوب أخرى قبلنا، كالخراب الاقتصادي وتدمير كل ما تم بناؤه في الإقليم والعراق إضافة إلى الخسائر البشرية الباهظة والتطهير العرقي والطائفي؛ فلا ننس أن هناك أكثر من مليون كردي يعيشون مندمجين في العاصمة بغداد، ونحو نصف هذا العدد أو أكثر في المحافظات العراقية العربية الأخرى وأي مساس بالعرب في المناطق الكردية قد يجابه بردود أفعال من ذات النوع.
تبدو مشكلة كركوك بعكس ما هي في الواقع. فالجميع يعتبرونها معضلة المعضلات غير قابلة للحل، وربما وجدنا سبب هذا الاعتبار في أن أحداً لم يجرؤ حتى الآن على التخلي عن سردياته وخرافاته القومية الخاصة ويحاول التفكير بحل واقعي، بل بقي الجميع في مواقعهم: فالقيادات الكردية تريد إلحاق المحافظة بالإقليم بأي شكل أو ثمن كان. أما العرب والتركمان وإلى درجة ما الكلدان والآشوريون فيرفضون مبدأ الإلحاق ويطالبون بتحويل المحافظة إلى «إقليم قائم بذاته». أما الحكومة المركزية التي يهيمن عليها الإسلاميون الشيعة فتتحجج بأسباب عملية معقدة تجعل تنفيذ الاستفتاء بموجب «المادة 140» أقرب إلى المستحيل، وهو كذلك فعلاً. وهناك قوى سياسية من العرب السُّنة والتركمان ترفض هذه المادة أصلاً، وتعتبرها مستنفدة ومنتهية دستورياً بنفاد السقف الزمني الذي حُدد لتنفيذها منذ بضعة أعوام. يمكننا أن نقول إن مشكلة كركوك ستكون من أيسر المشاكل وإن حلها ممكن جداً لو توافرت الشجاعة والإخلاص والشفافية وتخفيف حدة الجشع والمشاعر القومية المتطرفة، وعندها يمكن أن نضع على بساط البحث الاقتراحات الآتية على سبيل المثال لا الحصر:
ــ تقسيم المحافظة ومركزها مدينة كركوك جغرافياً وسكانياً، وتحويلها إلى محافظتين واحدة تتبع الإقليم وثانية لغير الأكراد تتبع بغداد.
ــ الإبقاء على المحافظة موحدة، ولكن ببلديتين في المركز؛ واحدة للأحياء الكردية تتبع له القرى الكردية وتتبع الإقليم، وأخرى لغير الأكراد تتبع له القرى غير الكردية وتتبع بدورها لبغداد، وهذا الحل الذي يدعى السيادة المشتركة المجزأة بلدياً يمتاز بالعملية وله تطبيقاته العملية.
ــ الإبقاء على المحافظة موحدة تحت السيادة والإشراف المشتركين لبغداد وأربيل بموجب معاهدة مفصلة ودقيقة وهذه الصيغة تدعى السيادة المشتركة ولها تطبيقاتها.
إذا كان الأكراد يرفضون العيش المشترك مع الآخر ضمن سيادة الدولة العراقية الحالية والانفصال في دولة مستقلة وهذا أحد تطبيقات حق تقرير المصير، فإن عليهم أن يوافقوا، هم أيضاً، على رغبة وطموح عرب وتركمان وكلدان كركوك المشروع في عدم البقاء تحت السيادة الكردية والبقاء ضمن السيادة العراقية لأن الحق في تقرير المصير كلٌّ لا يتجزأ.
* كاتب عراقي