أحد الادعاءات الظالمة بحق الشعب الفلسطيني، الذي كثيراً ما يوظفه أعداء أمتنا والأنظمة المتصهينة، وفي المقدمة نظام عمّان، عبر أدواته، هو أن الشعب الفلسطيني يتطلع إلى أوطان الغير، ويعمل على السطو عليها ليحيلها وطناً بديلاً، بدلاً عن بلاده التي باعها للصهاينة. قبل التوسع، نؤكد إيماننا العميق، المجرد، والصادق، بأننا نعد كل بلاد العرب أوطاننا... فليس لي في العراق أو سوريا أو الكويت أو مصر أو المغرب... إلخ، حصة أقل مما لكل مواطن من مواطني كل الدول العربية حصته في فلسطين. فبلادنا، فلسطين، تجمعنا وتوحدنا، وهي لكل العرب، كما أن كل بلاد العرب وطننا. وهذا ما يدفعنا لتأكيد حقيقة أن فلسطين قضية قومية بامتياز، وأن من غير الممكن لنا التقدم الحر خارج هذا الإطار، لذا قلنا في مطلع الحراكات الشعبية العربية: لا شرعية لثورة شعارها ليس فلسطين. وها هي تطوراتها تؤكد صحة نظرتنا. فنحن نرى شعوباً تتشظى وأوطاناً تتمزق، ولا شيء يجمع الأطراف المتنازعة، سوى الاستئثار بذلك الكرسي اللعين.
ادعاءات كهذه تقع بلا شك تحت خانة الهذيان وسوء النية، حيث لا يجد البعض إمكاناً له في الحياة السياسية المحلية خارج حملات التحريض والانضواء تحت راية الإقليمية الضيقة، وخصوصاً في الأردن، حيث تعلو بالتحذير من استحالة الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين في حال إخفاق حراك التسوية مع العدو الصهيوني. إن تحريضاً مبتذلاً كهذا لن يخدم أي طرف باستثناء العدو الصهيوني، حيث يحرِّض على التخلي عن الوطن المغتصب إضافة إلى أنه، ضمن المنطق/ اللامنطق الانهزامي اللاهث وراء تسوية مع العدو، والتخلي عن حقوق أمتنا في أراضينا، ورافق الحملة الغوغائية تلك على الفلسطينيين المقيمين هناك، بصفتهم مواطنين من التبعية الأردنية، تطالب بتجريدهم من حقوقهم المدنية، لأن ذلك يعني تهديداً للشخصية الأردنية [كذا!] واحتمال ذوبانها في المحيط الفلسطيني المزعوم.
لنعد إلى التاريخ القريب. في عام 1948 دخلت جيوش أنظمة عربية فلسطين بحجة حماية شعبها ومنع قيام الكيان الصهيوني فيها. وقيل، مراراً وتكراراً، إن الجيوش العربية حققت الانتصار تلو الآخر في بداية الحرب، لكن الغرب فرض عليها الهدنة، وما إلى ذلك من اللغو والكذب المبتذل. الحقيقة، كما بتنا جميعاً نعرفها، التي انكشفت من دراسة الوثائق الرسمية البريطانية والأميركية ذات العلاقة، تقول إن أنظمة «سايكس بيكو» العربية العميلة للاستعمار أرسلت القوات العربية لمنع الفلسطينيين من النضال ولتجريدهم من السلاح، ولتسهيل قيام الكيان الصيهوني وفق الخطط والحدود التي رسمتها دول الغرب الاستعماري مسبقاً عندما عينتهم حكاماً في وطننا بعدما قسمته بين العملاء الصغار. لذا فإن حرب 1948 لم تكن «حرب فلسطين» كما يدعي مزورو التاريخ، وإنما «حرب تقاسم فلسطين».
ما يثبت الأمر التطورات التالية، حيث تبدأ المؤامرة الحقيقية لفرض الوطن البديل. فقد قام نظام عمان بضم القسم الباقي من فلسطين (الانتداب/ = الاحتلال البريطاني) ومحو الاسم من الخرائط الرسمية ومن الحياة السياسية في بلادنا. إن منع نظام عمان، منذ تلك الحرب - المؤامرة، اسم فلسطين، وتغييبه على نحو مستمر من التداول، كان جوهره مخطط الوطن البديل.
فلكي تنجح مؤامرة اغتصاب فلسطين كان لا بد من تغييب الاسم وبالتالي الشعب، حيث أضحى ابناؤه مواطنين أردنيين، وفق المادة الثالثة أو التاسعة، تمييزاً لهم من مواطني شرق الأردن «الأصيلين»، ومنع الشعب الفلسطيني من الاحتفاظ بهويته الوطنية، التي هي في الأصل هوية انتماء ونضال، لا هوية تمايز وتفرقة. فعلى سبيل المثال، عندما اقترح الكاتب المصري أحمد بهاء الدين في ستينيات القرن الماضي تغيير اسم المملكة إلى فلسطين، حيث رأى أن ذلك يساعد على تجميع الفلسطينيين في بقعة جغرافية قريبة من بقية الوطن المغتصب، جن جنون ذلك النظام المتصهين ورفضه. لقد أخفى نظام عمان اسم فلسطين، ووضع في الجغرافية اسماً بديلاً هو «الضفة الغربية» تماشياً مع الشعارات الإلغائية: «الأسرة الأردنية الواحدة» و«الأردن بضفتيه»... إلخ. إذن كان المطلوب الوطن البديل، لكن ليس بإلغاء وطن الغير وإنما بإلغاء هوية شعب بأكمله. هنا تكمن مؤامرة الوطن البديل، حيث عمل نظام عمان على تجريد الشعب الفلسطيني من هوياته، النضالية والطبيعية وغيرها، خدمة للمشروع الصهيوني، حيث كثيراً ما كان قادته يرددون ببلاهة: أين شعب فلسطين؟
شعب فلسطين لم يكن في حاجة إلى وطن بديل، حيث وفر له نظام عمان العميل ذلك. طبعاً كل محاولات تضييع الهوية الوطنية الفلسطينية أخفقت، أمام عناد شعب فلسطين، وإصراره، على التمسك بكل حبة تراب من وطنه، وفي الوقت نفسه الانصهار، بصفته الوطنية، في مختلف الحركات والأحزاب القومية العربية. لذا، فإن شعب فلسطين كان في مقدمة القوى التي قاومت، بضراوة، وبلا كلل، محاولات بعض أنظمة «سايكس بيكو» فرض وطن بديل عليه. هذه هي الحقائق.
من يرِد مصلحة شعب فلسطين وبالتالي، مصلحة قضيتنا القومية الأولى، فإنه لا يحرض على شعب فلسطين ويختلق مختلف التسويغات لانخراطه في محاولة تسويق سياسات نظام عمان، الصهيونية، على أنها لمصلحة شعب فلسطين.
تبني قضية فلسطين يعني النضال معها ومع شعبها، ضد أنظمة «سايكس بيكو» المتصهينة، لا تسويغ الحملات الظالمة التي لا يمكن إلا أن تفيد العدو الصهيوني ومخططات الغرب الاستعماري الرامية إلى استمرار استعبادنا، ومن ثم طردنا من أوطاننا.
شعب فلسطين، رغم كل الجراح، من الشقيق وابن العم، على السواء، قام من أجل فلسطين كالعنقاء من الرماد، ولن تفلح كل محاولات حرف نضاله، الفردي والجمعي. ونظره، سيبقى مصوباً، من دون رمشة عين، على هدف واحد سامٍ هو تحرير فلسطين واستعادة حقوق أمتنا في بلادنا، ولو كره
الظالمون.
* كاتب فلسطيني