إنها المرة الثانية بعد دستور الطائف٬ ولن تكون الأخيرة التي يقف فيها العماد ميشال عون وحيداً٬ يدافع عن حقوق المسيحيين المغتصبة. في المرة الأولى وبعيد انتخابات عام ٥ ٠ ٠ ٢، التي طوبته زعيماً أوحداً للمسيحيين٬ رفض ما عرف يومها بالتحالف الرباعي أن يعطيه حقه الشرعي في تمثيل المسيحيين٬ وضرب الرئيس المكلف آنذاك سعد الحريري عرض الحائط بنتائج التصويت الشعبي، مما دفع عون إلى العزوف عن دخول جنة الحكم بأقل من حجمه. لقد اعتقد كثيرون يومها أنه يقوم بمناورة٬ الهدف منها زيادة حصته الوزارية وأخذ نصيبه من «الجبنة السياسية»، كما كان يفعل معظم أهل الحكم٬ وأنه في النهاية لا بد من أن يرضخ.واليوم يقف العماد، مجدداً، وحيداً، للدفاع عما يعتبره حقوقاً مغتصبة للمسيحيين٬ تجاه الخصوم والحلفاء على حد سواء٬ فقد توافق جميع النواب باستثنائه وصوتوا للتمديد لأنفسهم. أما الأسباب الموجبة، فحدّث ولا حرج٬ وكلها تتمحور حول الوضع الأمني في لبنان من جهة٬ وحول عدم التوصل إلى إقرار قانون جديد للانتخابات من جهة ثانية٬ كأن اللبنانيين كانوا ينعمون بالأمن والسلام طيلة الفترة الماضية. لقد جرت كل الانتخابات النيابية والبلدية في مواعيدها منذ اتفاق الطائف حتى اليوم٬ وذلك بالرغم من المقاطعة المسيحية في المرة الأولى٬ وبالرغم من وجود جيش الاحتلال السوري٬ وبالرغم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على كافة المناطق اللبنانية، التي كانت بالكاد تهدأ يوم الانتخابات. أما بالنسبة إلى ضرورة إقرار قانون جديد للانتخابات، فإن هذا الموضوع الذي لم يقر٬ كان من الثوابت في البيانات الوزارية لكل حكومات الطائف، ولم يؤد ذلك إلى التأجيل. والسؤال المطروح: لماذا حصل التمديد اليوم؟ وما هي المتغيرات التي أملت على الراعي الإقليمي والدولي البعث بكلمة السر «التمديد»، التي تلقفها كل الفرقاء باستثناء العماد عون طبعاً. فبالأمس القريب كانت السفيرة الأميركية مورا كونيللي وجميع الهيئات الدبلوماسية الغربية والعربية تنادي بضرورة إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها٬ بغض النظر عن الظروف الأمنية٬ المحلية والإقليمية٬ ومهما يكن القانون الذي ستجرى على أساسه. وكانت الحجة المعطاة آنذاك تقول إن عدم إجراء الاستحقاقات في مواعيدها يؤدي إلى الفراغ٬ وبالتالي سقوط الدولة: الدولة الديمقراطية ودولة المؤسسات.

تعددت الأسباب والتمديد واحد

إن الأطراف السياسية التي وافقت على التمديد إنما وافقت عليه لأسباب مختلفة تتعلق بمصلحتها بالدرجة الأولى٬ أو هي بكل بساطة وبالنسبة إلى البعض٬ جاءت تلبية لإملاءات خارجية٬ ضاربة عرض الحائط بمقولة أن المجلس سيد نفسه٬ ولا بد من الإشارة إلى أن أياً من النواب لم يجرؤ على ذكرها في حديثه. لقد بات واضحاً أن الأحداث السورية ـــ ولا سيما العسكرية منها ـــ قد أحدثت بلبلة داخل ما يسمى قوى الرابع عشر من آذار ورعاتها الإقليميين. وبعدما كان الاعتقاد السائد خلال الأشهر القليلة الماضية أن النظام على قاب قوسين أو أدنى من السقوط٬ إذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب٬ وذلك مع بدء الجيش السوري استعادة المواقع التي كان قد خسرها. وقد أدى دخول حزب الله إلى جانب قوات النظام في المعارك الدائرة في القصير ومحيطها إلى فرض نوع من الكماشة، التي أدت، بحسب الصحافة الفرنسية، إلى حصار الجيش الحر٬ وإغلاق الحدود اللبنانية أمامه. كل ذلك كان له تأثيره السلبي في وقف اندفاع القوى العربية التي كانت مزمعة على الحسم في الملف اللبناني٬ وتوظيف انتصاراتها الوهمية٬ وقد تجلى ذلك بتكليف رئيس للحكومة لإتمام الانتخابات من قوى ٤ ١ آذار وقبول قوى ٨ آذار به على مضض بغية الحد من الخسائر. وهكذا باتت عملية الحسم الانتخابي غير مضمونة النتائج لهذه القوى٬ لكون الدول الداعمة والممولة غير مستعدة في هذه المرحلة.
أما من جهة القوى المسيحية في ٤ ١ آذار٬ فقد بدا واضحاً أن صورتها تأثرت سلباً في الشارع المسيحي من جراء عدم التزامها بالقانون الأرثوذكسي٬ الذي كانت أول من تبنته، ومن ثم كانت أول من انسحب منه٬ وبات الشارع المسيحي يتهمها بالخيانة٬ ولم تنفع المؤتمرات الصحافية في إعادة تلميع صورتها، بل على العكس تماماً فقد أدت مداخلاتها إلى وضعها بمواجهة مفتوحة مع بكركي٬ وأصبحت صدقيتها في الحضيض. لقد أظهرت كل استطلاعات الرأي تقدم العماد عون وتياره على نحو غير مسبوق في الشارع المسيحي٬ مهما اختلف شكل القانون الانتخابي ونوعه. وأصبح أكيداً أن إجراء الانتخابات الآن يعني حتمية عودة التسونامي البرتقالي كما حدث عام ٥ ٠ ٠ ٢. أما من جهة قوى الثامن من آذار٬ فإن هذه القوى تنقسم إلى محورين اثنين أساسيين: الأول: محور الرئيس نبيه بري، والثاني محور حزب الله. بالنسبة إلى الرئيس بري فإنه بات بحل من دعم القانون الأرثوذكسي، وخاصةً بعدما تبرع الدكتور جعجع بنسفه من أساسه٬ ضارباً عرض الحائط بحقوق المسيحيين. ومن المعروف أن رئيس المجلس مهندس بارع في التسويات، التي يعول على استثمارها لاحقاً في رئاسة المجلس وعند تأليف الحكومة.
أما على صعيد المحور الثاني٬ فإن حزب الله وبالرغم من تحالفه المعلن مع التيار الوطني الحر، فإن الأولوية لديه٬ ليست قانون الانتخابات أو ضرورة إجرائها في مواعيدها٬ أضف إلى ذلك أن الحزب كان قد وفى بكل التزاماته وتعهداته لبكركي وللعماد عون، بتأييد القانون الأرثوذكسي ودعم حقوق المسيحيين ورفع الغبن عنهم.

ماذا يريد ميشال عون؟

لقد بات واضحاً أن العماد عون لا يقبل أنصاف الحلول أو أنصاف الحقوق٬ وأصبح واضحاً أن هنالك اغتصاباً مستمراً لحقوق المسيحيين، وأن هنالك فئة من اللبنانيين ترفض على نحو واضح لا يقبل الجدل٬ وضع قانون عصري للانتخابات، يؤدي إلى صحة التمثيل وعدالته٬ وذلك بغض النظر عن الظروف الداخلية، أو تلك المحيطة بلبنان. لقد وضعت النظم الدستورية والقانونية لإيجاد الحلول للمشاكل التي يعانيها المواطنون٬ وبالتالي يصبح لزاماً على السلطات أن تدعو إلى انتخابات عامة عند حدوث الأزمات السياسية الكبرى٬ والتمديد يعني بكل بساطة تعليق الدستور.
إن أول ما تطالب به حركات التحرر وهيئات المجتمع المدني هو ضرورة إجراء الاستفتاء الشعبي أو الانتخابات العامة٬ والتذرع بالفلتان الأمني ليس إلا حجة واهية٬ فكم من دولة أجريت فيها الانتخابات ووضعها أسوأ من لبنان بمئات المرات؟
ربما نسي البعض المطالب المشروعة للشعوب العربية، التي تنادي بانتخابات حرة ونزيهة٬ وهم يخططون لعودة هذه الشعوب مجدداً إلى عصور التكفير والظلامية.
* كاتب لبناني