أحياناً يكفي شارع واحد، مجرد طريق بسيط، ليفصل بين عالمين مختلفين تماماً. فمن الجانب السيّئ، تترامى منازل صغيرة من الإسمنت أو الأترنيت بسطت على شرفاتها ونوافذها أغطية وشراشف، فيما تلامس أسلاك كهربائية عشوائية الأرض فتتناثر بدون ترتيب يذكر. كلّ شيء يوحي بأن هذا الوضع موقت فقط، لكن الموقت هنا قد يدوم إلى الأبد.
ومن الجانب الجيد، تمتد فيلات أنيقة ترتفع عدّة طوابق، ليست بالغة الفخامة، لكنها تعكس الراحة الاقتصادية والاستقرار.
هنا تسكن عائلات الموظفين من معلمين وأطباء وغيرهم من المواطنين الذين يستفيدون من منافع الجنسية الكويتية، جلّهم من المالكين بفضل المساعدات التي تقدمها إليهم الحكومة. أمّا في الناحية الأخرى، فتقيم عائلات موظفين وعناصر شرطة وجنود سابقين، اكتشفوا في مطلع تسعينيات القرن الماضي أنهم ليسوا «مواطنين»، فسلبت منهم حقوقهم، حرموا العمل وحظّرت عليهم المستشفيات والمدارس العامة. هم مجرد مستأجرين يدفعون إيجار منازلهم إلى الحكومة في كلّ شهر.
على بعد أمتار من هذا المكان، يضع عمّال اللمسات الأخيرة على جامعة جديدة تستقبل طليعة طلابها في العام الدراسي المقبل، لكن أولئك ما هم إلا من سكان الجانب الجيد.
نحن في مدينة تيماء على بعد 25 كيلومتراً من الكويت العاصمة، التي شيدت فيها في نهاية السبعينيات بيوت شعبية ليسكنها جزء من الذين يطلق عليهم هنا اسم «البدون»، أي الأشخاص الذين هم بدون جنسية، أو بالأحرى بدون أوراق. معظمهم من أصول بدوية ما كانوا يعرفون أصول الإجراءات الإدارية، ففاتهم التسجل لدى لجان الجنسية التي أنشئت بموجب قانون الجنسية الذي جرى تبنيه عام 1959، قبيل الاستقلال عام 1961.
غداة سقوط بن علي ومبارك، انطلقت من هنا في شباط - آذار 2011 التظاهرات الأولى في الإمارة. احتشد المئات من أولئك المتروكين لحال سبيلهم للمطالبة بالمساواة في الحقوق. حملوا صور الأمير وأكّدوا انتماءهم إلى الأمة الكويتية (قراءة منى كريم «الكويت: بين المذهبية والثورة» في «ما رأي الخليج في الانتفاضة العربية»؟). بسرعة تمركز هؤلاء في ساحة واسعة أطلقوا عليها اسم «ميدان الحرية»، لكن السلطات ردّت بمحاصرة المدينة وإغلاق منافذها، لاجئة إلى قمع المحتجين وشنّ حملات اعتقال، كما أن جزءاً من وسائل الإعلام تعمّد مهاجمة المتظاهرين. غير أن كلّ ذلك لم يمنع بعض الكويتيين «الأصيلين» من تجاوز العوائق، ومن بينهم الناشطة في الدفاع عن حقوق الإنسان مها برجس.
تحكي برجس كيف قررت أن تكسر الحواجز على الرغم من نصائح كثير من أصدقائها، وتروي كيف تمكنت من فتح حوار مع المتظاهرين. هي ترى أن المسألة الأساسية هنا تتعلق بالمساواة، وتذكّر كيف تدهور وضع البدون الذين نسيتهم الدولية النفطية الثرية.
«منذ الاستقلال حتى عام 1985، تمتعوا بالحقوق عينها مثل بقية المواطنين: على الأخص مجانية التعليم والرعاية الصحية. وحصل الراغبون منهم في الدراسة في الخارج على منح من الدولة. وكانوا ممثلين على نحو كبير في الجيش والشرطة - وقد مثّلوا 70% من عناصر الأمن في ظلّ تهديدات بغداد (العراق كان يطالب بضمّ الكويت منذ الستينيات) وخلال الحروب العربية الإسرائيلية في 1967 و1973»، لكن ابتداءً من عام 1985 بدأ خطاب السلطة تجاههم يتخذ طابعاً حاداً، فاتهموا بأنهم مواطنو دولة أخرى (العراق أو السعودية)، وبإخفاء أوراقهم الثبوتية للاستفادة من خدمات دولة الكويت، لكن المنعطف التاريخي الحقيقي كان بين عاميّ 1990- 1991 على خلفية الغزو العراقي. فقد اشتُبه في أنهم مثل الفلسطينيين تعاونوا مع العدوّ. ألا يرى الكثير من الكويتيين أن البدون عراقيون متخفون؟
لقد حُرموا مجانية التعليم والصحة، وسُرّحوا من الجيش (سهل تطبيق ذلك بعد فرض الخدمة العسكرية الإلزامية في عام 1987) والمؤسسات الإدارية والوظائف العامة. ورفضت الحكومة منحهم وثائق زواج أو طلاق، ومورست عليهم ضغوط كثيرة ليكشفوا عن «جنسيتهم الحقيقية»، كما دفعوا إلى المنفى، فتراجع عددهم الرسمي الذي كان يقدر بما بين 250 و300 ألف إلى 105 آلاف، لكن ما من أرقام موثوق بها بالكامل، فالحكومة تتحفظ على الكثير من البيانات التي بحوزتها، إذ خلال السنوات العشرين الأولى بعد الاستقلال، كان البدون مسجلين، ويحق لهم الحصول على وثائق سفر وغيرها.
ومن اللافت أن حالة التمييز هذه لم تستدع الكثير من الإدانة لدى المجتمع الكويتي، فالبعض يعدّ البدون عملاء للخارج، أو مجرمين ومنحرفين. والبعض الآخر يخشاهم لأن الكثيرين منهم من الشيعة، وآخرون يقلقون من التكلفة الاقتصادية الكبرى لدمجهم في المجتمع.
تصرّ كلير بوغراند في أطروحتها (في طور النشر، بعنوان «بلا جنسية في الخليج: هجرة، مواطنة ومجتمع في الكويت». أي بي توريس، لندن) على أن العائلات الحضرية الكبرى الذي يطلق عليهم اسم «الدماء الزرقاء» يرون أنفسهم على أنهم «بناة الدولة» الذين أمنوا العصر الذهبي للإمارة بين 1960 و1985، والأزمة التي تلت هي نتيجة تدفق البدون «أشخاص بلا مشروع على أرض لا يربطهم شيء بها، لا يجذبهم سوى أموال الدولة».
يعكس هذا الخطاب نوعاً من التعجرف الطبقي أكثر ما يكون عنصرياً: ألم يكن يقال في فرنسا خلال القرن التاسع عشر إن ملّاك الأراضي وحدهم من يجب أن يكون لهم الحق في الانتخاب؟
غير أن بعض الأصوات المعارضة بدأت تسمع في المجتمع الكويتي. في عام 1992 قدمت المنظمة الكويتية لحقوق الإنسان، التي ترأسها السيدة برجس، تقريرها الأول عن أوضاع البدون محذرةً المنظمات الدولية.
وبدأت المنظمات الدولية التي صدمت بطرد 400 ألف فلسطيني بالاهتمام في الشأن الكويتي. عام 1995، عدّت منظمة «هيومن رايتس ووتش» البدون «مواطنين بدون جنسية»، كما أن عملهم لا يخضع للقوانين التي تنظم عمل المواطنين ولا الأجانب. «يحب القطاع الخاص أن يوظفهم في كافة القطاعات الخدماتية التي تستدعي التواصل مع الناس، فهم بثقافتهم كويتيون، فيعملون في مكاتب المحامين، في التجارة، في الأمن، في المدارس أو المستشفيات الخاصة، ويمكن طلب الكثيرين منهم، ويتقاضون راتباً أقل ولا يحق لهم بالعطل»، هو وضع يذكر بأحوال المهاجرين غير الشرعيين في أوروبا.
ترفض الحكومة الاعتراف بأنهم «بدون دولة»، أو عديمو الجنسية، بل تعدّهم «مقيمين غير شرعيين» (وزارة الخارجية تعترض على مصطلح عديمي الجنسية»، لكن الحكومة قد تقدم تنازلات: يقول مسؤول إن 37 ألف من البدون قد يستفيدون من الجنسية، على الرغم أنه لم يتم القيام بأي إجراء في هذا الاتجاه بعد). ويبدو أن التراجع الأكبر هو على المستوى الاجتماعي: فمن جديد بات البدون يوظفون كمدرسين أو أطباء في القطاع العام، والحواجز التي وضعت في وجه دخولهم الجامعات بدأت تتكسر، وبات وضعهم يناقش بحرية أكبر في وسائل الإعلام.
إن وضع البدون ليس إلا أحد أوجه غياب العدالة في المجتمع الكويتي. فمنذ بضعة أشهر، انطلق تجمع يضمّ قوى مختلفة في البلاد للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية، فقد طالب عشرات الآلاف بإلغاء قانون انتخابات فرضه الأمير يؤدي إلى انتخاب برلمان ترضى عليه السلطة (قراءة : الكويت يلتحق بـ«الربيع العربي»).
يصعب القول ما إذا كانت وحدة هذه القوى ستستمر أو ستتمكن السلطة من الاستمرار في اللعب على وتر الانقسامات بين المواطنين والبدون، وبين السنّة والشيعة، وبين القبائل.
في المقابل، قد يدفع مصير نحو نصف سكان الكويت، أي المهاجرين الذين لا يتمتعون بأي حقوق تذكر، إلى المزيد من التحركات في المجتمع. فنقرأ في الصحيفة الناطقة بالإنكليزية (أراب نيوز) خبراً بعنوان «مكتب العمالة الخارجية الفيليبيني، والسفارة الفيليبينية يثنيان على التزامات الكويت في حقوق الإنسان».
بين كانون الثاني و23 نيسان، جرى ترحيل 601 سيدة فليبينية إلى بلدهن، فقد قصدن ملجأً في الكويت بعد فرارهن من أرباب عملهن بسبب «أشكال مختلفة من سوء المعاملة، اللفظية، الجسدية، الجنسية، بدون ذكر الامتناع عن دفع الرواتب وساعات العمل الإضافية».
في أيام الأسبوع ، يحصى 6 إلى 7 أشخاص يفرّون من أرباب عملهم والعدد يرتفع إلى ما بين 12 – 14 في نهاية الأسبوع.
(ترجمة هنادي مزبودي)
* رئيس التحرير المساعد في «لو موند ديبلوماتيك» (فرنسا)