كلّما تعقّدت المسألة السورية أكثر، انتفخ اليسار بشقّيه المهيمنين، وازدادت حاجته إلى الظهور بغير مظهره الفعلي. قبل الانتفاض، كانت التسويات المعقودة بين أطرافه - أي اليسار - بشأن المقاومة وسواها من الإشكاليّات لا تسمح لهؤلاء بأن يتمادوا في خلافاتهم. بقي الجمر طوال الفترة تلك يعتمل تحت الرماد بالتوازي مع ظهور نتاج نظري لا يعبّر تماماً عمّا يضمره كلّ طرف للآخر. كانت القشرة المسمّاة ممانعةً هي المظلّة التي أتاحت لهذه التناقضات أن تستمرّ، وأن تخرج علينا في كلّ مرة بحلّة جديدة. مرّة في نقد موارب لمشروع حزب الله، ومرّات في نقض عجلة النهب التي ورثها سعد الحريري عن أبيه. لم يلتفت أحد حينها إلى افتقاد الفكرة ذاتها للانسجام وبالتالي القابلية للاستمرار. فحين يكون اليمين واليسار معاً في قالب واحد لا يعود المشروع بحدّ ذاته مهماً، ولا قائماً حتّى. طبعاً هذا النقاش لا يخصّ «الأخبار» كصحيفة وحدها، بل يطاول مجمل ما أنتجه اليسار في تلك المرحلة، إمّا وحده أو بمعيّة آخرين. «السفير» مثلاً معنية بالأمر من زاوية أنّها بدأت تعاني هي الأخرى من تفسّخات المشروع الذي كانت أوّل من صاغته واشتغلت عليه أيديولوجياً في السبعينيات من القرن الماضي. لو لم تنفجر سوريا بنا وبهم كجسم يساري عابر للحدود لوجدت أسباب أخرى للانفجار. على اليسار الذي غادر «السفير» و«الأخبار» أن يعي ذلك، وكذا الأمر بالنسبة إلى اليسار الذي بقي فيهما. سيكون مخجلاً فعلاً ألّا يقال هذا على مسمع الجميع. فالمسألة السورية لن تنتظرنا كثيراً، وستمضي في تعقيداتها وفي تفجيرها للمنطقة، وستترك اليسار بشقّيه «الممانع» و «المتهكّم على الممانعة» يتخبّط في سفسطاته ومماحكات أطرافه. ثمّة مشكلة يتعيّن معالجتها قبل أن يصبح هؤلاء جميعاً على هامش ما يحدث. هم الآن كذلك بالفعل، رغم كلّ محاولاتهم للولوج إلى الداخل من البوّابة السورية حصراً. لا يستهويهم مثلاً أن يتماهوا مع الانتفاض في شقّيه المصري والتونسي. هناك لا يقف اليسار متفرّجاً ينتظر من يدعوه إلى التدخّل، لا بل يندر أصلاً أن تلاقي تدخّلاً في الانتفاض لا يكون اليسار «قائده» أو صاحب الأسبقية إليه. يزعجهم على ما يبدو ألّا يكونوا ملحقين بآخرين، وهذا ما يفتقر إليه المشهدان المصري والتونسي الآن. أيضاً لا يوجد «أكشن» هناك ولا فقراء يقتلون فقراء أو ينهبونهم عملاً بمبدأ الديالكتيك المشرقي الذي تفتّقت عنه مخيلة ناهض حتر! أيّ ديالكتيك هذا يا رجل؟ السلفيون الذين يحاربهم حزب الله في سوريا (بعض هؤلاء أصبح كذلك بفعل التحوّلات السوسيولوجية المذهلة التي ألمّت ببيئتهم الاجتماعية)، هم أبناء البلد وليسوا طارئين عليه. إذا لم يستطع اليسار استيعاب مسألة بهذه البساطة فعلى جدليّته وكلّ متاعه النقدي السلام. من «يتهكّم» على مقالات ناهض مدعو أيضاً إلى مصارحتنا بموقفه الفعلي من الفقراء على ضفّة الموالاة. حتّى الآن لم ينبس هؤلاء (وعلى رأسهم من خرج من «الأخبار» و«السفير») ببنت شفة في خصوص ما يتعرض له علويو لبنان من اضطهاد. ثمّة موالون في سوريا ذبحتهم ثورتكم قبل سنة ونصف سنة من الآن لمجرّد أنّهم وجدوا في المكان الخطأ. على اليسار هنا إذا أراد أن يكون مؤثّراً فعلاً، الاصطفاف إلى جانب الضحيّة بنحو واضح، ومن دون أن يقيم اعتباراً لانتمائها السياسي أو الطائفي. بالنسبة إليّ انتهت الانتفاضة (لن تغدو ثورة إلا حين تصبح صراعاً بين الفقراء والأغنياء) عندما استعملت سلاحها ضدّ الفقراء والمدنيين غير الضالعين في أعمال القتل. حدث هذا الأمر بعد شهر أو أكثر من خروج خالد صاغية من «الأخبار». لا يهمّني ما يقوله الآخرون عن انعطافة حدثت في مواكبة الانتفاض. فالأساس في الموضوع هو أن تكون إلى جانب المهمّشين والمقموعين من السلطة، أيّ سلطة. حزب الله الآن في طريقه إلى التحوّل إلى سلطة إذا لم يراجع موقفه من معركة القصير (اقرأ: مذبحة القصير). وهذه مشكلة أكبر بكثير من مشكلته مع من ينتقدونه حالياً في لبنان لأسباب «محض شخصية». بصراحة، أيضاً، لا أرى أفقاً للكلام الذي قيل في خطاب نصر الله الأخير عن الحرب ضدّ التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي ــ التكفيري. البعد الداخلي في الأمر مقلق للغاية ولا يفعل أكثر من زجّ الحزب في مزيد من المآزق. قد لا يروق هذا التحليلُ اليسارَ الذي يبرّر للحزب كلّ تصرفاته، وأيضاً قد لا يروق آخرين يكرهونه ويغتبطون اليوم باستنزافه في الداخل السوري. لهؤلاء وأولئك أقول: هذا ديالكتيك أيضاً. في الديالكتيك كذلك يعتبر مسلّحو القصير مقاومين وأبطالاً بعدما كانوا قبل عام من الآن سلطة قمعيّة ومسؤولة عن تهجير معظم موالي المدينة بمختلف تلاوينهم. إذا كان ثمّة من يسار فعلاً على ضفّتي الانقسام أعلاه، فليكن مكانه هنا، عند هذا الحضيض الذي يرفض الطرفان الخوض فيه، بالضبط لأنّه... حضيض. يفضّلان طبعاً ألّا يتلوثا بوسخ الحرب. يعشقانها وينظّران لطاحونتها القذرة كلّ من موقعه ولحساب فريقه، ثم يعجزان عن قول كلمة واحدة بخصوص الجرائم التي يرتكبها هذا الفريق أو ذاك. سأقولها بالعامية هذه المرّة: «ملّا يسار». يسار كهذا لا يصلح لصناعة خطاب المرحلة. منطقه غير متماسك، ومشروعيته الأخلاقية مشكوك فيها، ومع ذلك يتنطّح طرفاه للتنظير لحرب هي في النهاية حربنا نحن. نحن الذين ندفع الثمن. عندما ننظّر للانتفاض ونواكب انعطافه نحو الحرب لا نفعل ذلك كما يفعله اليسار المسترخي والمتنقّل بين المكاتب المكيفة ومقاهي الرصيف في عمّان وبيروت. جدلية الثمن هي التي تتدخّل هنا لصنع الفارق بين يسار ملدوغ بالحرب ومستعدّ لدفع أكلافها حتى النهاية، وآخر لا يعنيه منها إلا ما ستحصّله من مكاسب له ولمعسكره. لا بدّ من تذكير رفاقنا على الضفّتين بأدبيات ضاعت منهم في سياق اللهاث وراء المعسكر والرأسمال القابع وراءه. أهمّ هذه الأدبيات وأكثرها تأثيراً في صوغ فكرتنا العمليّة عن اليسار هي وصول البلاشفة إلى الحكم في روسيا بعد انتهاء الحرب الأهلية بينهم وبين المناشفة. الثمن الذي دفع حينها كان غاليا جدّاً، ومع ذلك لم يجد لينين وتروتسكي ورفاقهما بدّاً من التنظير له لكي لا يكون ذلك على حساب الثورة وصيرورتها. ليس مهمّاً كثيراً إلام آلت الثورة لاحقاً، أو كيف صادرها ستالين وأفرغها من مضمونها، فما نعرفه أنّ اليسار منذ ذلك الوقت صار مضطرّاً أكثر إلى الاشتباك مع الواقع وتفكيكه، إمّا من موقع الاعتراض عليه أو من موقع الانخراط فيه. في الحالتين يكون اليسار في موقع الفاعل والمتدخّل في صياغة الواقع، وهذا شرط أساسي، لا لفاعليته فحسب، بل لوجوده كذلك. قبل فترة كتب ياسين الحاج صالح في «الحياة» السعودية (قبل أن يغادرها لاحقاً) كلاماً يربط فيه بين انتقاد «الثورة» والانخراط فيها. حينها لامه كثيرون على نظريّته هذه، وعدّوها شططاً وافتئاتاً على آخرين يرفضون بالأساس أن يكونوا جزءاً من الانقسام الحاصل. اليوم، وبأثر رجعي، يبدو لي كلام ياسين معقولاً بعض الشيء ربطاً بالواقع وديناميّته، لا بالثورة وآلياتها كما كان يقصد هو. يمكن كذلك أن نصوغ عبارته بشكل آخر: من لم يدفع ثمن هذه الحرب على نحو معيّن، لا يحقّ له أن يتدخّل نظرياً فيها، أو أن يصوغ منها معادلات رياضية دولية وإقليمية لا تتعامل مع البشر هنا إلّا كأرقام. بهذا المعنى يغدو الحاج صالح أقرب إلى اليسار بطبعته اللينينية من كلّ المتنطحين لنصرة الثورة أو ذمّها داخل لبنان والأردن. منذ البداية، كان واضحاً أن اليسار الذي سيبقى بعد انتهاء الحرب هو ذاك المستعدّ لتحمّل نتائج اختياراته، ولو بدا أنّها هامشية قليلاً، أو غير مؤثرة في مسار الأحداث على المدى القصير. إلى هذا اليسار بالتحديد ينتمي بعض منظّري الثورة، وإليه أيضاً ينتمي بعض منتقديها. الاثنان اختارا البقاء في البلد حتّى النهاية، وإن لم يبقِ فيه النظام الفاشي حجراً على حجر. بالطبع، ثمّة اختلافات جوهرية بينهما، لكنها لا تنفي تقاطعهما عند نقطة محدّدة لا يعلم عنها من يرطن باليسار من هنا وهناك شيئاً. عزمي بشارة أيضاً لا يفعل رغم تفاني البعض في إلباسه عباءة غرامشي. في الحقيقة هي واسعة عليه كما على خصومه «الممانعين». إذا كان عزمي هو «مفكّر حمد» بالفعل (أخيراً ثمّة نقطة تقاطع مع ناهض حتّر في أمر ما غير الاقتصاد) «فالممانعون الأسديون» ليسوا أقلّ منه تفانياً في خدمة السلطة، أيّ سلطة. من المفيد هنا معاودة تذكير هؤلاء جميعاً بالجذر الذي تعبّر عنه الكتل الاجتماعية حين تتحرّك وتحدّد انحيازاتها. وهذه هي المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى الانتفاض في سوريا. غياب الكلام على الانحيازات الاجتماعية هناك يسمح لكلّ المتطفّلين ومدّعي اليسار بأن يتدخّلوا في المشهد، ويدلوا بدلوهم. ثمّة حاجة متزايدة داخل البلد إلى فرز طبقي لكي يصبح واضحاً من يقف مع الفقراء ومن يقف ضدّهم أو في مواجهتهم. ما تُسمّى «الثورة» يقودها فقراء بالفعل، لكن ليس أكيداً ما إذا كانت وجهتها النهائية التماهي مع الفقراء، كلّ الفقراء. وهذه نقطة خلاف إضافية مع اليسار الذي يناضل حقّاً هناك ويعوّض عن صعوبة انخراطه في العمل السياسي باللجوء إلى الإغاثة بأشكالها المتعددة. ما أقوله لهؤلاء الرفاق مختلف عن القول لليسارويين في لبنان والأردن، وهو كذلك، لأنّهم يعرفون هنا ما معنى أن يكون المثقف أو الكاتب عضوياً وقريباً من البيئة التي يجري تدميرها وتهجير أهلها على بعد مئات الأمتار منه فقط. هذا الأمر يحصل يوميّاً في سوريا، ولا يعرف عنه أهل الجوار شيئاً، إلّا إذا اعتبرنا الشفقة على النازحين السوريين ورمي الفتات إليهم، معرفة أو ما يشبهها. من يختبر هذه التجربة فسيكون معنيّاً بأن يقول للناس كلاماً أفضل وأكثر وضوحاً من: «أنا الشعب ماشي وعارف طريقي». هو كذلك بالفعل في مصر وتونس حيث لا اقتصاد حرب يتغذّى على الخارج، ولا تقاسم عمل بين سلطتين فاشيتين تقتاتان على لحم الفقراء ودمهم. سنبقى نردّد كلمات أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام إلى الأبد، ولكن علينا أولاً أن نضع أغنيتهما في سياقها الطبيعي. مثلاً، حين يرفع كلّ الفقراء قبضاتهم في وجه الأغنياء وأصحاب الياقات البيضاء، وعندما يصبح بالإمكان تحييد الطبقة الوسطى عن المعمعة وعمليات القتل الحاصلة من الجانبين نكون إزاء وضع ثوري فعلاً، لا قولاً فحسب. حتى الآن لم يحصل شيء من هذا رغم كلّ التفاني الذي يبديه فقراء هذا البلد تجاه «ثورتهم»، ولكي يحصل حقّاً لا بد من تدخّل اليسار الثوري الذي يملك وحده الجواب على سؤال القطيعة مع النظام والكومبرادور المتحالف معه. بالطبع، سيتدخّل آخرون لمنع التدخّل ذاك، فالكومبرادور مرتبط عضوياً بالسلطة المافياوية، وهذه الأخيرة حليفتهم وواسطة العقد في المعسكر الذي سيهزم الإمبرياليات الغربية! نسينا أيضاً من سيتدخّل ضدّ تدخّل «الممانعين»، وهؤلاء ينسبون أنفسهم إلى اليسار كذلك. منهم من هو يساري فعلاً، ومنهم من يتطفّل على اليسار، غير أنّهم يشتركون جميعاً إلى جانب «الممانعين» في البعد عن المشهد، بتفاصيله ويومياته الحارقة. أفضّل شخصيّاً أن يصفّوا حساباتهم بعيداً عنّا وعن قضيّتنا. بإمكانهم أن يذهبوا إلى مصر وتونس، فثمّة ثورة فعلاً، وثمّة انحيازات اجتماعية يمكن على أساسها معرفة من هو اليساري منهم ومن هو... اليميني. اليمين أيضاً بحاجة إلى يسار «لايت»، حتّى يصبح أكثر احتمالاً وأقلّ عدائية تجاه الفقراء والطبقات الشعبية. هل من قال: ملّا يسار؟* كاتب سوري