ليس استهداف الجيش أمراً عابراً في مجرى التطورات السياسية والأمنية الراهنة، إنّه، أولاً، جزء من الانقسام المتعاظم في البلاد الذي لم يوفّر حقلاً أو نشاطاً إلا اخترقه بنحو كامل. ويجب القول هنا، إن التعامل مع المؤسسة العسكرية بالعداء من فريق، أو بالتبني والدعم من فريق آخر، لا يختلف تقريباً إلا في الشكل. أما في الجوهر، فإن العداء أو «الدعم» إنما ينطلقان من موقع فئوي، وبما يعطل الدور الجامع والتوحيدي للمؤسسة الوطنية التي ينبغي أن تكون لكل اللبنانيين بالتساوي، لا لفئة منهم على حساب فئة أخرى.
ولقد بات «تقليداً» شائعاً أن يجري تقاسم المؤسسات الأمنية في نطاق المحاصصة المستشرية في البلاد: وهكذا يكون «الأمن الداخلي» من حصة فريق. وتكون مخابرات الجيش من حصة فريق منافس. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مديرية أمن الدولة والأمن العام. ولقد سهّل كل ذلك تبادل الحذر إزاء هذه المؤسسة أو تلك، وصولاً إلى الجيش نفسه.
واستهداف الجيش هو، ثانياً، حلقة مهمة، في تداعيات الصراع على المؤسسات السياسية الأساسية الدستورية: مجلس النواب ومجلس الوزراء، ومن ثم تعطيلهما.
وهو ثالثاً، ثمرة طبيعية لتنامي دور الدويلات الفئوية وتوسعه على حساب الدولة المركزية.
يُضاف إلى ذلك ما نشأ من قوى أمر واقع جديدة هنا وهناك: في طرابلس وفي البقاع وفي صيدا. وهي قوى تبحث عن مواقع لإقامة مشاريعها السياسية _ الأمنية في كنف ما ذكرنا من عوامل التقاسم والانقسام ومظاهرهما. ولن يطول الوقت حتى تتبلور صيغ و«إمارات» ما زالت حتى الآن، تعمل في الظل، أو تطل برأسها في خفر. كل ذلك، طبعاً، برعاية ودعم خارجيين، وارتباطاً بالصراع الاقليمي، وخصوصاً ذلك الدائر في سوريا والمرشح للتصاعد، مستهلكاً أكثر من «جنيف» ومؤتمر دولي... حتى تتبلور صيغ ومعادلات وتوازنات جديدة.
ليس من الطبيعي إذاً، أن يكون الجيش موحداً في مناخ الانقسام المستشري في البلاد. وليس من الطبيعي أن يكون دوره فاعلاً في تحمّل مسؤولية ملف الأمن والاستقرار في البلاد. ثم إن تسييس دور الجيش عبر اخضاعه للفئوية والمحاصصة، هو أقصر الطرق لتهميشه، وصولاً إلى تعطيله بالكامل مهما كانت صيغة هذا التعطيل، عبر الحياد السلبي، أو عبر التشظي، أو عبر الالتحاق على قاعدة الانقسام، بهذا الموقع السياسي أو ذاك من المواقع المتصارعة في البلاد والمتفاعلة، بدورها، مع الصراعات الدائرة في المدى الإقليمي، وغالباً من موقع التبعية والالتحاق والارتهان.
إن الجيوش، عموماً، هي الأدوات الرئيسية في يد السلطات الحاكمة (والسلطات الحاكمة هي بدورها أدوات في يد الفئات والطبقات الاجتماعية الأقوى) من أجل فرض هيمنتها وترسيخ سيطرتها. وهي تتوسل، أيضاً، وفي السياق المذكور آنفاً، مؤسسات أخرى تشريعية وقضائية. ولبنان يفتقر إلى القوة القادرة أو القاهرة التي تستطيع ممارسة دور الهيمنة المذكور هذا. إن نظامه هو نظام «توافقي» يفتقر إلى قوة مركزية واحدة وموحِّدة، ويفتقر أيضاً، بنتيجة ذلك إلى الأدوات العسكرية والأمنية وحتى القضائية اللازمة لذلك. وإذا كانت التسويات، الموجهة غالباً من الخارج أو الممارسة مباشرة عبره، هي ما كان يحرك الحياة والعلاقات اللبنانية، فإن النزاعات والصراعات الداخلية والخارجية، هي ما يحول أيضاً، في مراحل التأزم، دون الحفاظ على الاستقرار وحتى «التعايش»، الذي نال نصيبه من الزجل أكثر مما تُرجم في صيغ وعلاقات قابلة للحياة والإنتاج.
ويحيل ذلك بالطبع على خلل جوهري في النظام السياسي اللبناني. وهو خلل لا يريد أحد من المستفيدين منه الاعتراف بوجوده وبخطره، ومن ثم السعي إلى علاجه واستئصاله من قبل أطراف السلطة. ولقد شهدنا في المرحلة الأخيرة استشراء هذا الخلل. اتخذ ذلك صيغة ما جرى تقديمه من مشاريع لقانون الانتخاب. وهي مشاريع فئوية تنطلق من مصالح هذه الجماعة أو الفئة أو تلك، لا من المصالح الوطنية العامة. إنها مشاريع تكرّس الانقسام، بل تدفعه إلى مداه الأقصى بذريعة إنصاف هذه الجماعة أو سواها دون الالتفاف إلى الأضرار العامة، التي تصيب الوطن والمواطن في مسائل أساسية: حق المساواة وشروط الاستقرار والاستمرارية والعدالة، فضلاً، طبعاً، عن صحة التمثيل وسلامة العملية الانتخابية.
ثمة، إذاً، «خطيئة» أولى ما زالت تترك آثارها المدمّرة على الكيان اللبناني نفسه. واليوم تتعاظم الأخطار مرة جديدة بسبب صراعات الإقليم من جهة، وتخلف وفئوية النظام السياسي اللبناني، من جهة ثانية. وحتى ما يحلم أو يطالب به البعض من قبيل الأمل أو الوهم، بأن ينهض الجيش إلى دور سياسي حاسم لقلب الطاولة على أفرقاء الانقسام والفئوية والتبعية في البلاد، حتى ذلك، غير ممكن أساساً، ولقد اختبرنا محاولات فاشلة عديدة عندما حاول البعض استخدام الجيش في عمل مغامر أو فئوي.
الجيش، إذاً، عاجز عن منع الانقسام، لكنه بالتأكيد سيكون ضحيته الكبيرة في حال استخدامه. وما يجري الآن، إنما هو حلقة في انهيار ما هو قائم من عوامل الاستقرار في البلاد. ويتذكر اللبنانيون بأسى كيف أنّ استخدام الجيش بشكل فئوي أو منعه من القيام بدور عام من منطلق فئوي أيضاً، قد مهد لحرب أهلية طويلة الأمد استهلكت الكثير من أعمار اللبنانيين ومن عمران وطنهم وعافيتهم.
كأنما التاريخ يعيد نفسه الآن، ولكن بشكل أكثر مأساوية. فالفئويات ناشطة والعصبيات مستنفرة إلى الحد الأقصى والولاء للخارج تعدى كل الحدود والخطوط. ذلك ما يقلق اللبنانيين. ويقلقهم أن بلدهم يندفع نحو الهاوية دون أن يلتفت حكامهم إلا إلى مصالحهم الخاصة.
يزيد في الأمور سوءاً غياب دور القوى الحريصة التي كانت في السابق تطرح مشروعاً جامعاً وتحاول من خلاله إنقاذ البلاد: أزمة النظام لا تداريها في التفاقم إلا أزمة البديل التقدمي والديموقراطي والوطني، أي البديل الجامع والمنقذ وغير الطائفي والمذهبي في الوقت نفسه.
* كاتب وسياسي لبناني