بانتظار تحقق أمنية سقوط النظام السوري عسكرياً، الذي طال كثيراً، استنفدت المعارضة السورية جلّ النقاط الموضوعة في قائمة الواجبات، المعدة سلفاً في جدول أعمالها، الرامي إلى تنصيبها بديلاً من النظام. الأوراق الرابحة دولياً، سياسياً وعسكريا وإعلامياً، بدأت تفقد قيمتها العملية أمام شدة استعصاء الحسم الداخلي، المرسوم خارجياً. فقد جرى إخراج سوريا من الجامعة العربية ولم يسقط النظام. مُنح مقعدها للمعارضة ولم يسقط النظام. جرى الاستيلاء على بعض السفارات، باسم الجامعة العربية، ولم يسقط النظام. جرى الاستيلاء على النفط السوري وربطه بالمعارضة ولم يسقط النظام. ووصل الأمر إلى ذروته العليا بتأليف حكومة، وإرسالها في زيارات دعائية لإدارة «الأرض المحررة»، ولم يسقط النظام أيضاً. باختصار شديد: سقطت أهم نقاط إسقاط النظام، الموضوعة في جدول أعمال «الثورة»، ولكن، لم يسقط النظام. لذلك كله وجب الانتقال إلى نقطة جديدة، دولية الطابع، مستلة من جدول أعمال الحرب، وهي البحث عن حجج قانونية، إنسانية المحتوى، تجريمية الطابع، ذات أغراض مزدوجة: تصعيد التخويف، وتهيئة ذرائع الغزو الأجنبي.بعد استنفاد خطوات انتصار المعارضة عسكرياً، أضحت لعبة الأسلحة الكيميائية محركاً تشغيلياً فعالاً رئيسياً، يدير عجلة المعركة السياسية، ويصنع الشروط النفسية والذرائعية للخطوات العسكرية، ولخطوات الضغط السياسي أيضاً.
وقد جرى تركيز الصراع الإعلامي حول معادلة مفتوحة الأبعاد: وجود أو عدم وجود أسلحة كيميائية، وجودها بكميات ضئيلة أو كبيرة، استخدامها أو عدم استخدامها، تعيين مستخدمها أو عدم تعيينه.
لكن أهم الانعطافات المفاجئة في معركة السلاح الكيميائي، وأكثرها عمقاً في دلالاتها، هو قرار الأمم المتحدة، القاضي بتجاهل شكوى سوريا، التي طلبت التحقيق في معلومات تؤكد فيها استخدام بعض الغازات ضد المدنيين من قبل المعارضة السورية. قوبل هذا الطلب بإهمال تام متعمد، وبدلاً منه أُلّفت لجنة تحقيقية تنظر في دعوى استخدام النظام للأسلحلة الكيميائية. وقررت الأمم المتحدة، على لسان بان كي مون، أنها ماضية في التحقيق ميدانياً إذا سمحت سوريا بذلك، أو غيابياً، لو رفضت سوريا دخول البعثة إلى أراضيها. الدلالة الرمزية والإيحاءات التاريخية لهذا التصعيد تعمقت أكثر حينما أعلنت الأمم المتحدة تعيين السويدي إكي سيلستروم، الذي نُعت بأنه ضليع في المسائل المتعلقة بنزع السلاح، رئيساً للبعثة الدولية المتعلقة بالتحقيق في السلاح الكيميائي السوري. (كانت سفارة السويد في أميركا مكافأة السويدي جان الياسون ومعها رئاسة الأمم المتحدة، وكانت السفارة مكافـأة السويدي رالف إيكيوس أيضاً، ومعها رئاسة معهد بحوث السلام. فهل ستكون السفارة من نصيب سيلستروم؟ هذا مرهون بنجاح ذرائع الحرب) هنا نعثر على سويدي جديد يتابع المسلسل العراقي، ولكن فوق الأراضي السورية، في إشارة موجهة تقول: إن الأمم المتحدة سائرة على النهج الذي سارته في قضية احتلال العراق. ويبدو من ترتيب الأحداث، وعند إعادة تركيبها فنياً، أنها معدة إخراجاً وإنتاجاً وتمثيلاً، لغرض واضح: رسم صورة مجسمة، حسيّة، تذكر بذرائع غزو العراق. لا يعوز الحدث حتى الآن سوى ظهور عنصر واحد: مجسّم الأقمار الصناعية المصوّر، الذي يثبت «موقع الجريمة»، كما فعل جورج تينت في غزو العراق. تلك رسائل مفتوحة، موجهة تحديداً إلى رأس القيادة السورية وحلفائها. لأن الشعوب، أو الجماهير، غير معنية، بمثل هذه الإشارات، سواء أكانت مبهمة أو مفهومة، لكنها معنية بنتائجها النهائية وعواقبها.
إن طرق بناء معادلة مركـّب الإيهام والإبهام، وسبل حلّ تركيبتها المتداخلة والمعقدة، ترغمنا على العودة قليلاً إلى الوراء، وعدم الاكتفاء بالإشارات اللغوية الثنائية: ايكيوس السويدي أو إكي سيلستروم السويدي، الإدانة بقرار دولي أو من دون قرار، وجود دليل مثبت على الأرض أو دليل افتراضي مثبت بالمخيلة، وربما بالأقمار الصناعية.
قبل الغارة الإسرائيلية بأسبوع، نُشر على مواقع الانترنت، خبر مجهول المصادر، له وظيفة خاصة جداً في مسلسل الحرب الكيميائية. وهو خبر معدّ إعداداً بارعاً للإجابة المسبقة عن أسئلة أوباما الثلاثة، المتعلقة بفجوة الاستخدام الضئيل للسلاح الكيميائي: «أين؟ وكيف؟ ومن؟»، ولكن قبل أن يطرحها أوباما على الملأ. يقول الخبر:
«... وتعتقد وكالات الاستخبارات أن حكومة الأسد قد استخدمت كميات صغيرة من هذه المواد الكيميائية ضد الثوار. وبحسب تقرير نقلاً عن وكالات الاستخبارات التركية والعربية والغربية لدى سوريا نحو ألف طن من الأسلحة الكيميائية المخزّنة في حوالى 50 موقعاً، معظمها في شمال البلاد، مثل غاز «في أكس» وغاز الخردل وغاز السارين، التي يمكن اطلاقها باستخدام المدفعية وقاذفات الصواريخ وصواريخ سكود والطائرات. واتهم الجنرال ايتاي برون، من الاستخبارات الإسرائيلية، الثلاثاء الماضي سوريا باستخدام الأسلحة الكيميائية - السارين - في هجومين الشهر الماضي بالقرب من مدينتي حلب ودمشق» (نقلاً عن موقع العالمية الالكتروني 27 نيسان 2013).
إن قارئ هذا الخبر لا يحتاج إلى فطنة أو مهارة خاصة، لكي يدرك أن هذا الخبر سبق تداوله في حرب أخرى. إن الأمر لا يتطلب سوى تغيير بسيط يتعلق بحذف وإبدال ثلاث كلمات: حلب بحلبجة، وايتاي بإيكيوس، والأسد بصدام. بهذا نكون قد انتقلنا إلى حرب سابقة، قامت على الذرائع نفسها، من دون أن يكلف صانعوها أنفسهم عناء البحث عن ذرائع وحجج ومسوغات تضليلية جديدة. على الرغم من أن المسوغات الأولى كانت «كذبة كبرى»، بتقدير الخبراء الدوليين، وباعتراف كبار قادة المشروع الحربي الأميركي. إن التعويل الأعظم في الدعاية الحربية يقوم على مبدأ مجرب: إن الشعوب لا تستخدم ذاكرتها للتحقق من صحة أو كذب الحدث، وإنما تشحذها للغرض الذي يلائم لحظة الانفعال، العاطفية، التي تقود المشاعر المتأججة.
ما طبيعة اللحظة التاريخية، التي أحاطت بالغارة الإسرائيلية على سوريا؟
في اللحظة التاريخية النموذجية، الناجحة، يكون صانع الحدث قادراً على وضع الإرادة المعادية في حال قسرية، تكون فيها مجبرة على اتخاذ خيارات إرغامية. أي إن الذات تفقد حق الاختيار، وتجبر على انتقاء أحد الاحتمالات المعروضة أمامها من قوى صانعة لمجريات الحدث. كانت الفطنة الإسرائيلية عالية على نحو ملحوظ في اختيار لحظة التوقيت، التي بنيت على ثلاثة احتمالات رابحة. الأول: سكوت الطرف المضروب والتكتم على الحدث. والثاني: الإفصاح عنه والهجوم لفظياً، من دون وجود إمكان للرد العسكري. أما الثالث: فهو الإفصاح والرد العسكري. عند دراسة الخيارات الإلزامية الثلاثة، نجد أن الطرف المعتدى عليه جرّب بعض تلك الخيارات، ولم يوقف الاعتداء، لكنه لم يخسر بعد كثيراً من ثقة مؤيديه أيضاً. إن خيار التكتم وإخفاء الحدث يمنح المعارضة شرعية الادعاء بأنها هي من قامت بالفعل. وهي نقطة تسجل لمصلحة أعداء النظام، الذين يكسبون نصراً ليس من صنعهم، يمنحهم جرأة أكبر للتأكيد على أن النظام عاجز تماماً عن إدارة دفة الواقع (حجة أردوغان وإسرائيل الأمنية، تقول إن سوريا أصبحت الجبهة العالمية الأولى لمعركة الارهاب الدولي. علماً أن اسرائيل وأردوغان هما مهندسا عمليات جلب الإرهاب إلى سوريا. أما وليام هيغ، فيقول إن ضرب إسرائيل لسوريا لو صح، فهو يعني أن السلام العالمي في خطر، وعلى المجتمع الدولي الاسراع في حماية السلام، من طريق ايجاد حكومة في سوريا لا تعرض السلام للخطر!). ولهذا السبب فضلت الاستخبارات الإسرائيلية ومعها القنوات العربية والأميركية والغربية اعتماد فيلم القصف المرفق بعبارات التكبير للنشر. لأنه يَحتمِلُ أن يُجيّر لمصلحة المكبّرين، في حال حدوث التكتم. وهو السبب عينه الذي دفع وليم هيغ الى القول بأنه «ليس لدينا أي تأكيد رسمي» على الهجوم، أي إنه فتح احتمالات الحدث. وهو عين ما قاله عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، عند سؤاله عن إقرار إسرائيل بقصف سوريا: «أنا لا أعرف من الذين أقروا بذلك، ومن هم أولئك المسؤولون... المسؤولون الرسميون بالنسبة إلي هم الناطق العسكري». الاختيار الثاني- الاعلان من دون رد عسكري - يقلل الثقة بين مؤيدي النظام، ويضعف من عزيمتهم، بسبب تكرار الحدث. أما الخيار الثالث، الرد العسكري «الفوري» المباشر، فهو المصيدة، التي ينتظر الأعداء من النظام الذهاب إليها برجليه.
لهذا السبب نحسب أن الشعوب أو الجماهير تقاد بفعل قوة شروط اللحظة التاريخية المحيطة بالحدث. بيد أن القيادات السياسية تستطيع تغيير اتجاهات العواطف المرتبطة بالحدث، لكن من دون أن تؤثر على طبيعة الحدث، باعتباره حالة تقع، في ظرفها الآني، خارج سيطرة الإرادات وخارج رغبة الذات. فإسرائيل تعرف أنها كسبت نقطة تفوّق، في تلك اللحظة (مدعومة دولياً وعربياً وحتى فلسطينياً)، لكنّ أعداءها قرروا استمالة الجماهير نحو لحظة قادمة، تصحح عجز اللحظة الراهنة. معادلة كسب الجماهير، تغيرت بدخول حزب الله، الذي لم ينجح - ولا يستطيع الآن تحديداً - في استرداد نقطة النجاح من الإسرائيليين على نحو كامل، لأنها خارج دائرة الإرادات، باعتبارها فعلا متحققاً، لكنه استطاع أن يجرد بنجاح تام خصوم النظام السوري من الثقة، التي كانوا يرجون الحصول عليها من الضربة، وفي عين الوقت استطاع أن يكسب رضى مؤيديه نفسياً وعقلياً، وأن يهيئ «الجميع» لتقبل نتائج ما يمكن أن يحدث.
ولو قفزنا قليلاً إلى الأمام، فسنحصل على صورة للحدث أكثر سطوعاً في مغازيها. بعد يومين من الغارة الإسرائيلية، تعلن محققة دولية بالأدلة القانونية أن المعارضة استخدمت غازات الأعصاب ضد المدنيين في سوريا. في السابع من آيار فاجأت المدّعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية، السويسرية كارلا ديل بونتي، الولايات المتحدة باتهامها المعارضة السورية باستخدام الأسلحة الكيميائية. وكان لزاماً على واشنطن والأمم المتحدة أن تردا. وقد سارعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إعلان «تشكيكها على نحو كبير» في صحة أقوال المدعية العامة، واكتفى حلفاؤها، بما فيها الأمم المتحدة، بهذا الرد الغائم، لكن الفعّال والعملي.
قبل يومين، لا أكثر ولا أقل، من ظهور إعلان ديل بونتي، اختتمت فجأة، ومن دون تمهيد مفهوم، جولة التصعيد الكيميائي الراهنة، التي لن تكون الأخيرة حتماً. حدثان وقعا بغتة، في ظلمة الليل: في الساعات الأولى من الخامس من أيار تولت الطائرات الإسرائيلية ضرب أطراف دمشق، وعند انبلاج الفجر، تسارع المتعنتون الغربيون والأميركان وحلفاؤهم، إلى المسؤولين الروس، للبحث عن أفكار جديدة، هدفها إيجاد حل سلمي للمشكلة السورية.
ما الذي حدث؟ في هذه الجولة قد تبدر من الطرف المتعنت بعض التنازلات الجزئية، وقد ترغم أطراف من المعارضة السورية المتشنجة، التي سارت عارية في مشروع الغزو والتدخل الأجنبي المسلح، على التواري الموقت أو إبدال الوجوه والأقنعة، لكن العبرة الأكبر، في معادلة الإيهام والإبهام، هي دخول إسرائيل طرفا مباشراً، علنياً، في معركة دمشق. «الطيران الإسرائيلي يقصف سوريا من أجواء لبنان»، هذا هو العنوان الرئيسي لعدد يوم 5 أيار من صحيفة المستقبل (العدد يتحدث عن غارة المطار). الصين تستقبل نتنياهو في ذروة تداعيات الضربة، أوباما يقول: إن إسرائيل تقوم بواجب الدفاع عن النفس. أمّا وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ، فيلخص تلخيصاً مفيداً ومعبراً طبيعة ما نعنيه بالإيهام والإبهام ومغازيه النهائية. يقول هيغ عن القصف الإسرائيلي: «ليس لدينا أي تأكيد رسمي». هذا التعليق التهكمي، الموجه بوقاحة مطلقة إلى البشرية كلها، يتعلق بغارة جوية في أكثر نقاط العالم التهاباً. (كيف سيتأكد هيغ من الجو، من استخدام الجيش السوري للغازات، بكميات «ضئيلة»، إذا كان على هذا القدر من الغباوة!)، لكنّ مبهمات هيغ الذكية تتعلق هنا بالذرائع، بالإبهام والإيهام، لا بحدوث أو عدم حدوث غارة، نقلتها أجهزة التصوير مباشرة، خلال دقائق، إلى البشرية كلها، مصحوبة بنداء «الله أكبر!». إن هيغ يقول لنا هنا: لو اجتاحت إسرائيل الحدود السورية يوماً ما، فلن تكون لدينا تأكيدات رسمية على حدوث ذلك، إلا بعد مرور عدة أيام. أما المغزى العسكري لهذا الحدث في نظر هيغ، فهو: «إن إسرائيل ستتحرك لحماية أمنها القومي، وعلينا احترام ذلك».
إن الدور القيادي، المسلح الجديد، العلني، انتقل من يد المعارضة السورية العاجزة ميدانياً وسياسياً واجتماعياً، إلى يد معارضة رديفة، تمتلك شرعية دولية، وقوة حاسمة، علينا «احترامها»، وقبول ما تفعله. هذه رسالة هيغ.
إن الطرف الجديد، المسلح، العلني، لا المعارضة السورية المسلحة، هو المعني بمعادلة الإبهام والإيهام، بمعادلة حل النزاع بالقوة. إنها إسرائيل، وليس أحد غيرها. هذه رسالة الأميركيين الموجزة. في الجولة الجديدة من المفاوضات، سيأخذ الجميع، بنظر الاعتبار، هذه الحقيقة عند الجلوس إلى مائدة الحوار السلمي أو الحربي.
إن المفاجأة الكبرى، التي كشفت عنها الغارة الإسرائيلية، التي انطلقت في ذروة حملة غاز السارين، أنها أفصحت عن الطور الجديد من خطة المعركة، وأسلوب إدارتها.
لقد غيرت إسرائيل ذرائعها تغييراً جذرياً تزامناً مع الغارة. ولم تعد معنية بوجود أو عدم وجود السارين. أضحى هدفها العلني البحث عن أسلحة كاسرة للتوازن.
إذاً، المعركة الآن ليست معركة معارضة، بل معركة إسرائيل. أما الهدف، فلم يعد بحثاً عن غاز، بل بحثاً عن معادل عسكري، يعيد ترتيب توازن المنطقة.
إن الخبرات العسكرية والسياسية الأميركية التاريخية القريبة، تتركز في حالتين عيانيتين. الأولى: العراق ويوغسلافيا، وهي حالة اللعب من طرف واحد. والثانية: كوريا الشمالية وإيران، وهي خيار اللعب من طرفين، بطرف مفتوح على كل الاحتمالات الممكنة.
يقول أوباما «إنه لا يعتزم مبدئياً ارسال جنود أميركيين (ربما يعني ليس الآن، وربما يعني غير أميركيين) إلى سوريا، مشيراً إلى أنه لا يرى أي سيناريو تكون فيه خطوة من هذا النوع مفيدة للولايات المتحدة أو سوريا».
لكنه يؤكد في اللحظة نفسها قائلاً: «على نحو عام، لا استبعد شيئاً بصفتي قائداً أعلى (للجيش الأميركي)، لأن الظروف تتغير ويجب التأكد أنني لا أزال أملك السلطة الكاملة للولايات المتحدة للدفاع عن مصالح الأمن القومي الأميركي».
هنا نعود مجدداً إلى المعادلة ذاتها: اعتزمنا ولم نعتزم، ندري ولا ندري، ضربنا ولم نضرب، دعمنا الإرهاب ولم ندعم، ذبحنا السوريين ولم نذبح.
إن خيار الحرب من طرف واحد يقتضي وجود لاعب عسكري، يقوم بمهمّات توجيه ضربات عن بعد (حرب غير مباشرة)، هدفها الضغط السياسي، وتدمير البنى التحتية كاملة، والأهم تدمير الروح المعنوية وتمزيق النسيج الاجتماعي، وجعله قابلاً لاستقبال العمليات القيصرية بيسر.
ترقب أميركا وضعف المعارضة، دفعا بعنصر جديد إلى الواجهة، هو إسرائيل، التي يراد لها أن تنوب عن أميركا في تنفيذ لعبة الحرب من طرف واحد. وهي خطوة تلائم تماماً العقيدة العسكرية الأميركية الجديدة: خصخصة الحرب عالمياً، وتلائم مناخ الربيع العربي.
ولهذا السبب انتقلت إسرائيل فجأة، من ملف الحرب الكيميائية إلى ملف البحث عن صواريخ التوازن. وهذا يعني أن إسرائيل تخلت عن السلاح الكيميائي لمصلحة الضاغط السياسي ممثلاً في أميركا وبريطانيا وحلفائهما. أما الضرب عن بعد، فهو مهمة إسرائيلية، بعدما عجزت تركيا عن تحقيق ذلك، منذ أن أسقطت طائرتها في أول عملية هجوم جوية تجريبية فاشلة، قرب أم الطيور السورية.
هل رجّحت أميركا خيار الحرب من طرف واحد؟
عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، يجيبنا عن الخيار الأميركي قائلاً، بصراحة إسرائيلية محمودة: «إن السلاح في سوريا موجود تحت السيطرة وما من سلاح كيميائي لدى «حزب الله»، ولدينا القدرات على معرفة ذلك، وهم ليسوا متحمسين لأخذ سلاح كهذا، وإنما منظومات (صاروخية) تغطي كل الدولة (الإسرائيلية)» (نقلاً عن مصدر موثوق به هو صحيفة المستقبل، 17 آيار 2013).
إن تعبير «المنظومات الصاروخية» ذريعة حرب تبدو أكثر قانونية وواقعية من «أسلحة الدمار الشامل». هذا تطور جديد في المعادلات الحربية اللغوية، لكن نتائج المعادلات مرهونة دائماً بسبل استخدام اللعبة، وحسن إدارتها، داخلياً ودولياً، لا بذرائع الحرب وبمدلولاتها اللغوية.
هل نحن في صميم سيكولوجيا الحرب، أم أننا لم نزل في إطار الحرب النفسية؟
* ناقد وروائي عراقي