يجري التداول على مستوى مواقع القرار وكذلك أوساط الرأي العام في المشروع الذي تتحدث عنه الصحف ومحطات التلفزة الفضائية ومعاهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية حول خطة التهويد المعدة لفلسطين، وعبرها لكامل المشرق العربي. المسألة لن تقف عن حدود التطهير العرقي للداخل الفلسطيني من عرب 1948، وهو بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، ولكنها أيضاً لن تقتصر على إعلان وفاة أو انتهاء صلاحية العمل بحق العودة لفلسطينيي الشتات، وهو إجراء مخالف لمبادئ وقواعد القانون الدولي نفسه ومنطوق القرارات التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بشأن القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، بل إنها ستشمل عملية تغيير خارطة المشرق العربي بأكمله وفقاً لمقتضيات المصالح الإسرائيلية والغربية التي تطغى بقوة في عدة أماكن وتشتبك حول جملة ملفات إقليمية ودولية. هنا تكمن خطورة هذه المغامرة التي تخوضها إسرائيل وأميركا. فما الذي ينطوي عليه هذا المخطط القديم، والذي يفرض نفسه بقوة على أجندات مختلف أطراف الصراع والقوى المعنية بهذا الملف أو المؤثرة فيه؟ وما الذي يكمن خلف هذا المشروع الكبير أو يُعد لبلدان وشعوب المشرق مع تصاعد العنف والتصعيد الميداني، حيث يتسع نطاق البحث بمستلزمات اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة والمشاهدات التي تعقب ذلك؟يهدف المخطط الصهيوني، بالتعاون مع الولايات المتحدة وبتغطية كاملة من قبلها ومن الغرب، إلى إقامة دولة يهودية خالصة لا مكان فيها مطلقاً للعرب من المسيحيين والمسلمين أبناء فلسطين الحقيقيين وأهل الحق والقضية، ذلك أن خطة إسرائيل تقضي بتصفية الوجود الفلسطيني وكذلك القضاء على مظاهر الحضارة العربية الإسلامية والتراث المسيحي العالمي في فلسطين المحتلة. يعمل اليهود الصهاينة حالياً لتفتيت وحدة المجتمع الفلسطيني أو ما تبقى من هذه الوحدة الداخلية، وذلك بإلغاء فكرة الارتباط التاريخي والحضاري بإقليم فلسطين المحتل والعودة إلى الوطن من ذاكرة الفلسطينيين وقاموسهم السياسي واللغوي والفكري. كما ينوي المحتل الصهيوني أيضاً التخلص تماماً من البقية المتبقية من الفلسطينيين العرب في أراضي العام 1948، والذين ظلوا في أرضهم ما برحوها تحت الاحتلال وفي ظل التهديد والتنكيل من قبل قوات وعناصر أمن إسرائيل. تستكمل راهناً قيادة الكيان الصهيوني مشروع التطهير العرقي الذي بدأته للوصول إلى الهيمنة المطلقة والسيطرة المطبقة على كامل التراب الفلسطيني من ضمن رؤيتها للكيان العنصري الذي تسعى إلى تأمين ظروف نشأته الموضوعية والتاريخية كوطن قومي لليهود وحدهم انطلاقاً مما جاء في مجمل النصوص والقراءات للمنظمة الصهيونية العالمية التي تحرض على التفرقة والتمييز العنصري والتطهير القومي والعرقي والديني في البقع التي تطؤها أقدام الصهاينة. قد يكون من غير المستغرب أو المستهجن هذا الكلام الذي يعلمه العديد من النخب السياسية والفكرية والاقتصادية في العالمين العربي والإسلامي وفي العالم الغربي المسيحي على حد سواء، فالنظرية التي تقوم عليها إسرائيل في الأصل لا تحتمل التشكيك في القدرة على السيطرة العسكرية والأمنية أو المغامرة في إمكانية استمرار الوجود السياسي والقانوني بما تحظى به من تأييد دولي صريح ومعلن على الدوام. لذا حان الوقت من وجهة النظر الصهيونية للمضي في المخطط المرسوم لفلسطين وللمنطقة بأسرها، فقد بلغ العرب من الضعف والوهن ما يكفل عملياً عدم القدرة على المواجهة والرد صفاً واحداً بفعل الانقسام والتشرذم والتصادم الداخلي، ما يدفع إلى القول بأن ما يحصل في بلدان المشرق العربي، وخاصة في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين ومصر، من مستجدات سياسية وأحداث أمنية إنما يندرج فعلاً في إطار مخاض إعداد المنطقة لعملية تقبل فكرة قيام أو وجود الكيان اليهودي الخالص في قلب المشرق وعلى كامل التراب الفلسطيني أو الرضوخ للواقع القائم قسراً وإكراهاً. هكذا أصبح العرب والمسلمون والمسيحيون من أبناء هذا الشرق قاب قوسين أو أدنى من لحظة إعلان أو تحقق الدولة اليهودية العنصرية على أنقاض القضية الفلسطينية والحق العربي في فلسطين بالرغم من كل القرارات الصادرة عما بات يُعرف بالشرعية الدولية المتمثلة في إرادة أعضاء المجتمع الدولي الجماعية.
يعيش المشرق العربي في الوقت الراهن حالة هستيرية غير مسبوقة من الغليان والاضطراب في ظل اقتتال الجماعات أو المكونات السياسية الفئوي ودخول المجموعات الجهادية والعناصر التكفيرية والمنظمات الإرهابية على خط الصراعات والانقسامات وتصفية الحسابات الداخلية بين الحزبيات أو العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية. لم تشهد البلدان العربية المشرقية مثيلاً لهذا الحراك السياسي والشعبي والاستخباري المتداخل مع لعبة أمم قذرة في التاريخ الحديث والمعاصر، حتى الدول العربية التي عانت ماضياً من التقلبات السياسية والانقلابات العسكرية وإعادة التموضع استراتيجياً لم تمر بمثل هذا المخاض الصعب من التخبط وغموض المسار والمستقبل. لذا تحيلنا أحداث المنطقة الراهنة على تعدد الخيارات المحتملة المفتوحة، فالمنطقة عموماً في مهب الرياح التي تعصف بالعالم ومنظومة العلاقات الدولية ونظم اقتصادات الغرب، لكن بلدان المشرق العربي التي تعاني من الضعف المزمن والمفرط للبنى المؤسسية الوطنية فيها تواجه حالة عامة بغاية الخطورة من الفوضى واللااستقرار نتيجة انكشاف أمني وسياسي واقتصادي مع انعدام القدرة على إعادة بناء استقرارها وتحقيق التنمية المجتمعية المستدامة والشروع بالتغيير السلمي الديموقراطي بقصد تحصين الجبهة الداخلية للتصدي كما للمواجهة المتواصلة مع العدو واستعمار القرن الحادي والعشرين.
يتزامن تصاعد امكانية تحقق ظروف قيام الدولة اليهودية في فلسطين مع هذا المناخ الذي ينذر باحتمال انفجار المشرق العربي الوشيك من داخله، إن لم نقل إن هذا المخطط الصهيوني لتهويد فلسطين بالكامل هو جزء أساسي من مشروع إعادة تقسيم المنطقة وترسيم حدود الكيانات فيها بطريقة مصطنعة تناقض حق تقرير المصير ومبدأ السيادة الوطنية. إن خطورة المضي قدماً في تنفيذ هذا المشروع المدبر لا تقف أبداً عند حدود فلسطين وحدها، لكونه يستهدف مباشرة وحدة إقليم هذا البلد وهويته التاريخية، بل انها تطال واقعاً كل الدول القائمة في المنطقة، وخاصة الدول العربية التي تفتقر إلى الشرعية والميثاقية والقدرة الذاتية على درء مخاطر التقسيم وانفصال المجموعات المتمردة ودعوات اتحاد أو وحدة بعض العصبيات والفئويات الرجعية. إن البحث في مضامين وتداعيات فرضية قيام دولة يهودية داخل إقليم المنطقة، وقبل ذلك الشروط الواجب توافرها لقيامها على أرض الواقع، لا يخلو البتة من الصعوبات والمغامرات، وقد يذكرنا عند هذا المقام بالتحديد بالبعد القيمي والرسالي لنموذج التجربة اللبنانية في التعايش السلمي بين الطوائف والمذاهب في لبنان الحديث والمعاصر، وإن كان يحتوي على بعض المحطات المحرجة واللحظات المؤلمة مع توقف عجلة حوار وطني وحضاري وديني كان دوماً وسيلة حتمية لتذليل المطبات وتفادي أزمات وطنية وسياسية. هنا ينبغي تكييف خطة بناء هذه الدولة اليهودية مع معطيات المحيط أو الوسط الذي يُفترض أنها ستعيش فيه بنية استيعاب أثر هذه المؤامرة على بقية بلدان المنطقة المشرقية. فإسرائيل اليهودية التي تخلو افتراضياً من غير العنصر اليهودي الصهيوني، تناقض حتماً كل التجارب أو النماذج التي تقوم على التعددية والتنوع تحت سقف الوحدة والتضامن مع ما يعنيه ذلك من حق اختلاف ومعارضة. إسرائيل اليهودية تلك لا تستطيع البقاء وقبلاً لا يمكن قيامها بموازاة وجود دول وأنظمة ممانعة ومقاومة وحركات شعبية مناهضة لعلة وجودها واستمرارها وتحالفات إقليمية مناوئة لمطامعها ومصالحها، لا سيما إلى جانب بلدان ومجتمعات تختلف معها في العقلية السياسية والخلفية الحضارية والبنية التكوينية طبعاً. لذا يغدو لزاماً على إسرائيل وحلفائها تقويض أو تدمير المؤسسات الوطنية للدول العربية المجاورة في سبيل ضرب وحدة المجتمعات وأطيافها على مستوى المشاعر والخيارات والتفضيلات الوطنية وتفكيك مقومات سلطان ونفوذ وهيبة الحكم المركزي فيها، انتهاء بتفتيت بنيانها وحذفه من الوجود السياسي والقانوني والدولي. هكذا ينتقل مشروع بناء كيان استيطاني مغلق لمناهضة ومكافحة التعددية المجتمعية المتجذرة في سائر الدول المحيطة، وقد يغدو وفق المخطط المرسوم للمنطقة بأسرها النموذج الذي ينبغي أن يُحتذى به على قاعدة تفكيك الكيانات المحتضرة أصلاً لمحميات طائفية ومذهبية متناحرة يتقاتل فيها السنة والشيعة والباقون من المسيحيين والعرب والفرس وأكراد المنطقة وأحفاد عثمان وغيرهم من المجموعات الروحية والعرقية.
أمام تعاظم الفرقة فيما بين الفرق والشيع المسلمة من أرض العراق إلى الشام وجبل لبنان ومنه إلى مصر عبر فلسطين، وهو أمر خطير جداً قد يكون من غير الممكن تفادي مفاعيله وذيوله في القريب العاجل وعلى المدى الطويل، قد تستفيق شعوب المنطقة يوماً ما لتجد أن بقية القدس والقضية الفلسطينية قد أطبقت إسرائيل عليها بالكامل لغير رجعة هي عودة ستكون مستحيلة. لن يكون هناك حينها أية إمكانية لقيام خلافة إسلامية عادلة أو تحقق إمامة من سلالة محمدية بغير تدخل العناية الإلهية. ولن يكون حينذاك قد بقي من مسيحيي المشرق من ينتظر عودة السيد المسيح ليلاقيه في صلاته من فلسطين إلى كل العالم. فمشروع الدولة العنصرية اليهودية هو في الصميم محاولة استعمارية معاصرة للنيل من كل أطر وقوى وتيارات المقاومة الوطنية والقومية والدينية وإجهاض كل مشاريع الوحدة العربية أو السورية أو المشرقية أو الإسلامية لمصلحة الكيان الغاصب لفلسطين، ومن خلفه المخططات الغربية للهيمنة واستغلال النفط والغاز من الخليج إلى المتوسط. فهل يعني قيام مملكة لليهود من جديد في فلسطين دخولنا أو ترقبنا زمن العدل الإلهي الذي تتحقق فيه الدولة الفاضلة المنتظرة بفضل مبعوث السماء للأرضين الذي ينتظره المسيحيون والمسلمون جميعاً وقبلهم اليهود من غير الصهاينة؟
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا