حفنة من الشباب الثوري لا يجمعهم اتجاه سياسي واحد، قرروا تنظيم حملة لسحب الثقة من محمد مرسي رئيس الجمهورية، وأعطوا حملتهم اسم «تمرد». النتائج كانت مفاجئة، في غضون أيام كان ما جمعوه من استمارات لسحب الثقة من الرئيس والدعوة إلى انتخابات مبكرة يتجاوز مليوني استمارة من كافة محافظات مصر. ليس هذا فقط، بل أصبحت حملة تمرد هي عنوان هذه المرحلة من الثورة المصرية، ولم يعد هناك مكان في مصر يخلو من مجموعة تنشط في جمع تواقيع سحب الثقة، وأصبح الهدف المحدد من الحملة، وهو جمع 15 مليون توقيع بما يفوق الأصوات التي فاز بها مرسي في الانتخابات الرئاسية، ممكناً في الفترة المحددة، وهي نهاية شهر يونيو/ حزيران. وبحسب الحملة، سيصبح من المنطقي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة طالما أنّ عدد من يرفضون مرسي أكبر ممن انتخبوه من قبل، طبعاً هذه المطالبة ستجري عبر فاعليات احتجاجية متتالية تجبر السلطة على الامتثال للمطالب المدعومة بشرعية 15 مليون توقيع.تكمن المفاجأة التي حققتها حملة تمرد في وقت قصير في أنها نجحت في ما لم تنجح فيه القوى السياسية التقليدية من أحزاب وجبهات وغيرها، رغم أن بعض من مؤسسي الحملة ينتمون إلى هذه القوى. ومثلاً فشلت حملة سابقة كانت تهدف إلى جمع توكيلات لوزير الدفاع تطالبه بتولي شؤون البلاد في تحقيق جزء من هذه النتائج، لكن من ينظر إلى السنوات الماضية منذ مطلع الألفية إلى الآن سيجد المفاجأة أكبر. لقد شهدت الحياة السياسية في مصر محطات مهمة منذ مطلع الألفية حتى اليوم بدأت بتظاهرات دعم الانتفاضة الفلسطينية التي انطلق فيها تلاميذ المدارس وسكان الأحياء على نحو عفوي ودون دعوات مسبقة، ثم احتلال ميدان التحرير في مارس/ آذار 2003 من قبل عشرات الآلاف من المتظاهرين احتجاجاً على الغزو الأميركي للعراق. ثم تأسيس حركة كفاية ومشتقاتها للمطالبة بالإصلاح الديموقراطي ورفض سيناريو توريث الحكم لجمال مبارك. بعد ذلك فتحت جبهة أخرى للنضال الجماهيري بانطلاق الحركة العمالية في إضرابات لم تشهد مصر مثلها من قبل، توجت بإنهاء هيمنة الدولة على الحركة النقابية بتأسيس أول نقابة مستقلة كبداية لحركة استقلال النقابات عام 2008. العام نفسه الذي شهد الدعوة إلى الإضراب العام التي انطلقت من عمال المحلة لتتلقفها مجموعات شابة وتعممها على مستوى الجمهورية وتنفجر انتفاضة المحلة وتتأسس على خلفية ذلك حركة 6 أبريل. ثورة 25 يناير نفسها بدأت بدعوة من عدد من المجموعات النشطة وتحولت إلى ثورة.
هذه بعض المحطات التي مثلت تحولاً في الحياة السياسية في مصر. وكانت أهم ملامحها أنها حشدت جموعاً ضخمة من الجماهير، التي لم تكن ضمن الجماعات النشطة سياسياً، كما أنها تميزت بأنها لم تكن معبرة عن اتجاه سياسي بعينه ولم تحمل أيديولوجية بعينها، بل حملت دائماً مطالب محددة سواء سياسية أو اجتماعية، لكن الملمح الأهم لهذه الحركات جميعاً أنها مثلت تمرداً على الأطر التقليدية والآليات المعتادة للعمل السياسي في مصر. فكانت في كل مرة تترك الجدل والسجال السياسي الدائر، وتشق طريقاً مختلفاً للعمل على أرض الواقع. في كل مرة كان يبدو في الأفق تحول في الأوضاع السياسية في مصر كانت هناك حالة من التمرد ليس فقط على النظام الحاكم، بل أيضاً على الأطر السياسية التقليدية التي شملت النظام والمعارضة على السواء. وهنا تأتي حملة تمرد التي قررت تحدي غرور الجماعة الحاكمة التي لا تتوقف عن التباهي بصندوق الانتخاب. ففي كل مناسبة وحتى دون مناسبة تؤكد جماعة الإخوان المسلمين أنّ مرسي جاء عبر صندوق الانتخاب، وكذلك مجلس الشورى والدستور. ردّ «تمرد» يبدو مفحماً عندما تقول سنأتيكم بأكثر مما حصلتم عليه في أي صندوق. تجاوزت الحملة كل ما في السوق السياسي من انتخابات برلمانية قادمة إلى دعوات عودة الجيش ودعوات الحكومة التوافقية وغيرها من القضايا التي تتولد يومياً، ويدور حولها الجدل بلا انقطاع وعادة بلا نتيجة، وقررت اللجوء إلى الشعب.
النجاح الذي حققته الحملة في وقت قياسي يطرح سؤالاً، لماذ تنجح دائماً المبادارت المتجاوزة للأطر والآليات التقليدية؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال عندما نفهم طبيعة النظام الاستبدادي الذي قامت ضده الثورة والقائم على ثنائية السلطة والمعارضة، السلطة الاستبدادية والمعارضة المدجنة. الثورة انطلقت ضد السلطة ومن خارج أطر المعارضة التقليدية سواء الرسمية أو غير الرسمية، وفي الغالب في مواجهة عجز تلك المعارضة. كانت الثورة مثل كل المبادرات التي انطلقت منذ الانتفاضة الفلسطينية وحتى حملة تمرد ترفض دخول السباق في المضمار الذي أعدته السلطة مسبقاً. تنجح تلك المبادرات المتمردة على ثنائية السلطة والمعارضة في كسب ثقة الجماهير وحشدها مثلما حدث عدة مرات في تأكيدات متتالية على إفلاس وفساد تلك المنظومة، لكن في كل مرة تحرز فيها تلك المبادرات تقدماً يبدأ مضمار السباق السياسي في الاتساع بمرونة لاستيعاب المتمردين الجدد. فدائماً ما جذبت نجاحات مبادرات النضال الناجحة القوى السياسية المختلفة لتبدأ في محاولة فرض آلياتها على الحركات البازغة ووضعها في المضمار السياسي التقليدي. ألم تشهد الفترة التي أعقبت الثورة تأسيس العديد من الأحزاب وفق القواعد التي وضعها المجلس العسكري في محاولة لاستيعاب الحشود التي اندفعت في الثورة، لكن اللافت أن «تمرد»، أيضاً، لم تخرج من عباءة المعارضة التقليدية بما فيها أحزاب ما بعد الثورة. وهو ما يعني أن عملية الاستيعاب لم تنجح بالكامل. وإن كان نجاح الحملة يجذب بكل تأكيد قوى المعارضة.
يمكن الحديث مطولاً عن نقاط الضعف في حملة تمرد، ويمكن القول بسهولة إنها لا تمتلك استراتيجية ولا رؤية لاستكمال الثورة، وإنها لا تطرح بديلاً سياسياً. انتقادات كهذه وغيرها واجهت دعوة 25 يناير 2011، وكذلك دعوة الإضراب العام في 6 أبريل 2008 ومع ذلك أصبحت علامات بارزة في التاريخ السياسي المصري، بل بدايات لمراحل جديدة، لكن أيضاً، هناك الكثير من الحملات والدعوات المتمردة لم تلق حظاً من النجاح واندثرت، لكن المؤكد، أيضاً، أنه إذا كانت الحركات التي تنطلق خارج الأطر السياسية الرسمية تنجح أحياناً وتخفق أحياناً أخرى، فإن التجربة أثبتت أن الأطر والآليات السياسية التقليدية لا تحرز نجاحاً عادة.
بغض النظر عن النتيجة النهائية التي ستصل إليها حملة تمرد، وما إذا كانت ستنجح فعلاً في فرض انتخابات رئاسية أم لا، إلا أنها بكل تأكيد نجحت في إثبات فشل آليات الاستيعاب في السيطرة على حالة التمرد التي أطلقت الثورة وانطلقت معها. إن محاولات إعادة ترميم نظام الحكم الذي هزته الثورة تجري على قدم وساق عقب الثورة، تجري معها خطوة بخطوة عملية إعادة ترميم المعارضة بتوسيع مضمار السباق وتحسينه، لكنه يبقى دائرياً ولا يؤدي إلى أي مكان. يجري الإحلال والتبديل في الأشخاص والوجوه، وأحياناً في المؤسسات سواء في السلطة أو في المعارضة في محاولة لاسترداد النظام بثنائيته «السلطة والمعارضة» وإزالة آثار الثورة وإعادة استيعاب الجماهير الغاضبة التي انتفضت خارج القواعد المعتمدة للسياسة. فتأتي حملة تمرد لتؤكد، كما أكدت حركات سابقة أن الذين تمردوا من قبل على المنظومة الحاكمة شاملة السلطة والمعارضة يصعب السيطرة عليهم مرة أخرى.
* كاتب مصري