لا يبدو الخبير والسفير الأميركي السابق بيتر غالبريث مجرد شخص مرتشٍ قام بدور مهم لصالح القيادات الكردية العراقية مقابل رشىً طائلة. فالدراسة التي أنجزها الباحث العراقي في شؤون النفط فؤاد الأمير، والتي توقفنا عند بعض محاورها في مناسبتين («الأخبار» العدد ١٩٩٢ الاثنين ٢٩ نيسان ٢٠١، والعدد 1999 الجمعة 10 نيسان 2013)، تقدّم لنا الكثير من الأدلة والحقائق الموثقة التي تؤكد أنّ الرجل كان صاحب برنامج متكامل وغاية في التطرف السياسي المناوئ للدولة العراقية، برنامج لم يخطر في بال القيادات الكردية ذاتها في الماضي. يسجل الباحث العراقي أنّ غالبريث سبق له أن انغمس في تنفيذ مخططات تفتيتية في دول أخرى كإندونيسيا ويوغسلافيا السابقة وأفغانستان حين كان يعمل سفيراً للولايات المتحدة في تلك الدول خلال أزمات مصيرية مرت بها. وقد انتهى بعض تلك الدول إلى التفتيت الكلي كيوغسلافيا أو الجزئي كإندونيسيا أو غرقت في الحرب الأهلية المفتوحة كأفغانستان. إنّ النظرية التي يعتمدها غالبريث والأهداف التي وضعها نصب عينيه كانت بعيدة جداً عمّا كان يطمح إليه الزعماء الأكراد على مرّ العصور! ويمكن أن نتلمس الملامح الرئيسية لنظرية غالبريث التفتيتية من خلال ما ورد في كتابه «نهاية العراق»، الذي صدر عام 2006. ففيه يكتب (بعد أن غادرت العراق في أيار 2003، أدركت أن لدى القادة الأكراد مشكلة في المفاهيم Conceptual problem، فيما يتعلق بالتخطيط للعراق الفدرالي. فهم كانوا يفكرون في تفويض للسلطات، بما يعني أنّ بغداد هي من تعطيهم حقوقهم. وإن مناقشتي معهم كانت في أن المعادلة يجب أن تكون معكوسة. وفي مذكرة أرسلتها إلى برهم صالح ونيجرفان بارزاني (رئيسا حكومة الإقليم لاحقاً) في آب 2003، وضّحت الفرق بين المقترحات السابقة وفي ما يجب أن تكون عليه، للحكم الذاتي والفدرالية. إنّ الفدرالية هي نظام: الأسفل يصبح الأعلى، وإنّ الإقليم أو المنطقة تتشكل في البداية ثم تُعطى هي بعض الصلاحيات وحسب رغباتها إلى الدولة الاتحادية والحكومة المركزية. ويضيف غالبريث: «وكتبت في النهاية، إن أي تناقض في قوانين كردستان وقوانين ودستور العراق، سوف يكون في صالح كردستان».
إن فكرة غالبريث التفتيتية هذه سوف تتحول حرفياً إلى المادة 115 في الدستور العراقي ونصها: «كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في حالة الخلاف بينهما».
بعد ذلك ألحَّ غالبريث _ كما يروي في كتابه _ على الأكراد بالتوسع في زيادة مطالبهم، فيقول «قد لا ترغب إدارة بوش في إصرار الأكراد على حقوقهم، كما قلت للأكراد، ولكن سوف تحترمهم إذا قاموا بذلك».
يلاحظ الأمير «أن ما يتحدث عنه غالبريث بفخر ليس فقط إعطاء مشورة، وهي مشورة كاذبة، بل تحريض لتحدّي الحكومة المركزية، والاحتلال موجود، وكان من الواجب وجود تفاهمات عن «العراق الجديد». هو يعرف بالذات أنه ليس هناك حكم ذاتي أو فدرالي في العالم تتنازل المحافظات والأقاليم فيه عن حقوقها لتعطيها للحكومة المركزية! أو أنّ أي تناقض بين قوانين الإقليم والدستور الاتحادي يكون في صالح قوانين الإقليم! إن هذه المفاهيم هي ما كان يريده هو، غالبريث، وليست هي المفاهيم الموجودة في الدول الاتحادية «الفدرالية»».
وحين يطلب غالبريث من الأكراد أن تكون المعادلة مقلوبة، فهذا يعني عدم التفاوض الودّي مع قوى الأكثرية الأخرى في العراق، حول الحقوق والصلاحيات. وهذا ما كان يريد الأكراد أن يفعلوه، ولكن نصيحة غالبريث الخبيثة هي «عكس المعادلة»، أي أنْ يأخذ الأكراد ما يشاؤون من حقوق ويتركوا بعض الصلاحيات للحكومة المركزية. ويختم الأمير تحليله بالقول «لقد كان غالبريث رائد تفتيت العراق وإنهائه، فهو يريد تطبيق المعادلة المعكوسة ليس في إقليم كردستان فحسب ولكن في كل محافظة، حتى ينتهي العراق».
عندما يستعرض غالبريث حوادث العراق للفترة 2003_2005، فإنه يحاول أن يصور لنا أن له تأثيراً كبيراً في نظام الحكم الحالي في العراق من خلال بنود الدستور. فقد حقق _ في رأيه _ مسألتين أساسيتين في دستور 2005، الأولى: إن السلطة النهائية بيد الإقليم والمحافظات وليس الحكومة المركزية، والثانية: هي سيادة قوانين الأقاليم على القوانين الفدرالية.
وقد يبدو هذا الأمر صحيحاً عند القراءة الأولية السطحية للدستور، وخصوصاً في ما يتعلق بمسائل النفط، والمسائل الأخرى المتعلقة بخارج حدود المادة (110) من الدستور، والتي سمّيت «الصلاحيات الحصرية للسلطات الاتحادية»، وهي مادة دستورية مبهمة متناقضة مع نفسها. في كل الأحوال، إنْ كان لغالبريث دور في صياغة هذه المواد الدستورية، فلقد وضع في النتيجة دستوراً يمكن استغلاله في تفتيت العراق على الرغم من وجود مواد أخرى، قد تكون وضعت من جهات شاركت في صياغته، وحاولت تعطيل «التفتيت» من خلال وضع مواد أساسية مناقضة لتلك التي وضعها غالبريث، وتجعلها غير قابلة التنفيذ، كإضافة المادة (111) التي تنص على أن «النفط والغاز ملك الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات»، والتي جعلت المواد (112) و(115)، المتعلقتين بالنفط أيضاً، لا يمكن تفسيرهما إلاّ من خلال اعتبار الحكومة الاتحادية ومجلس النواب الاتحادي المسؤولين عن السياسة النفطية، وتحرم عقود المشاركة بالإنتاج، رغم أن النفط لا يوجد ضمن المسائل الحصرية للسلطة الاتحادية في المادة (110) كما أراد غالبريث.
والواقع أن المادة 111 لا تقرر نهائياً وبحسم سيادة الحكومة الاتحادية على الثروات الطبيعية كما نعتقد، فهي عامة وبلاغية وتتناقض مع مواد أخرى، ولكنها قد تصلح لعرقلة استيلاء حكومات الأقاليم والمحافظات عليها. وعلى هذا، فهذه المسألة بحاجة الى حسم دستوري في أقرب تعديل يعيد صلاحيات الدولة الاتحادية التي سلبها غالبريث إليها.
يخبرنا الأمير في دراسته بأنه كان يبحث عن الشخصية التي أصرّت على وضع المادة الدستورية الحاسمة (111)، وأنه حصل أخيراً على معلومات تؤكد أنّ المرجع الديني، سماحة السيد علي السيستاني، هو الذي أكد على زائريه ومريديه من السياسيين ضرورة ووجوب تحديد مادة دستورية واضحة لا لبس فيها، تبين أن «النفط والماء» هما ملك الشعب العراقي في كافة المحافظات. وفي رسالة شخصية وضّح الباحث فؤاد الأمير لكاتب هذه السطور أنّ عبارة «النفط والماء» تعني النفط وبضمنه الغاز كثروتين معدنيتين مترابطتين، والماء أيضاً كثروة استراتيجية أخرى. وإذا كانت توصية السيد السيستاني بخصوص النفط والغاز قد دخلت الدستور فعلاً _ يضيف الأمير في رسالته الشخصية _ فإن الجزء الآخر والخاص بالماء غير الآتي من الخارج لم بحسم ولهذا سيكون هناك مشكلة ستتفاقم مستقبلاً بالنسبة إلى الماء.
يلفت الأمير انتباه قارئه إلى العلاقة الوثيقة ما بين غالبريث وبين بايدن _ صاحب مشروع تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم طائفية _ فكل واحد منهما يؤيد الآخر. وعندما رُشّح بايدن في أواخر خريف 2008 لمنصب نائب الرئيس، استبشر غالبريث بقوله «إن هذا الأمر مشجع جداً»، لأن بايدن كان دافعاً لسياسة تقسيم العراق تقسيماً ناعماً (soft partition).
في نهاية مناقشته لهذا المحور ينتهي الأمير إلى خلاصة مفادها: إن ما كان يريده غالبريث من ضمان سيطرة الزعامات السياسية الكردية على النفط الموجود في الإقليم تحت سيطرتها فشلت تماماً بفضل وجود المادة 111، التي أكد السيستاني على وجوب إدخال مضمونها في الدستور فجاءت متوازنة ولمصلحة جميع العراقيين.
السؤال المهم الذي يتركه الباحث من دون جواب هو: ماذا كان يريد غالبريث بالضبط من وراء خططه تلك؟ هل كان يريد للإقليم الكردي أن يكون مالكاً للنفط الموجود فيه؟ ولكن ماذا عن المحافظات والأقاليم الفقيرة الاحتياطي النفطي؟ أم كان يريد أن يكون نفط كردستان لكردستان وحده، والآخرون لهم نفطهم؟ وهذا الخيار لو طُبّق فسيضر بكردستان كثيراً. فنسبة الاحتياطي المعروف في الإقليم، حتى لو أضفنا إليه _ افتراضاً _ حقل كركوك، مقارنة بالاحتياطي العراقي كله، هو أقل من نسبة الحصة التي يأخذها الإقليم من الميزانية العراقية العامة. يختم الأمير حواره الداخلي بالعبارة الآتية: من المحتمل أن غالبريث كان يفكر في أن نفط كردستان يبقى لإقليم كردستان، وفي الوقت نفسه تبقى لهم حصتهم في نفط العراق وبنفس النسبة التي يأخذونها من الميزانية العامة. الواقع هو أن هذه الفكرة التي عبّر عنها الباحث مطبّقة عملياً الآن كأمر واقع؛ فالإقليم الكردي يتسلم حصة من الميزانية العراقية تبلغ 17%، في حين أن النسبة السكانية للأكراد لا تتجاوز 13%، إضافة إلى ما يجنيه من بيع نفط الإقليم مباشرة إلى دول الجوار، وكل هذا بفضل «مقلوبة» غالبريث الفدرالية!
وإذا كان الأمر كما تقدم عرضه وتحليله، فهل نجح المرجع السيستاني، من خلال المادة الدستورية (111)، في إصلاح ما أفسده الخبير الأميركي المرتشي غالبريث، أم نجح وحسب في عرقلة تحقيق ما كان يريده الأميركي أصلاً وهو تفتيت العراق دولةً ومجتمعاً وثروات؟
* كاتب عراقي